مهما اختلفنا في تقييم الدور الذي لعبه الصحفي المصري الكبير الراحل محمد حسنين هيكل في التاريخ السياسي العربي المعاصر، ومدى صدقية ما أرخ به للأحداث الكبرى التي عرفتها مصر بل حتى العالم العربي بأسره على الأقل خلال النصف الثاني من القرن العشرين، فإننا لا يمكننا أبدا أننختلف في اتساع معرفته بالنلفات التي لطالما غاص فيها، وخفة ظله وذكائه وقدرته على نقل ما عايشه وما لم يعايشه من أحداث وحكايات إلى حيث يتمكن من خلالكل ذلك، من خدمة أفكاره وحكاياته. كان هيكل ظاهرة لافتة وغريبة ومفعمة بإثارة النقاش في حياتنا السياسية والفكرية هو الذي رحل دون أن يترك وريثا له في مساره ومكانته. ومن هنا نجدنا نلتقيه دائما في مراحل متعددة من حياتنا وربما في مناسبات قد لا تخطر في البال.
ومن هذه المناسبات، اليوم، برامج "الحكي التلفزيوني" التي تملأ شاشات التلفزة العربية وتتماثر بشكل منطقي، منذ شهور لتدور بشكل خاص من حول الظروف والأحداث العاصفة التي تمر بها المنطقة العربية. فالحال أنه في كل مرة يجتمع فيها من حول طاولة واحدة وعلى شاشة مشتركة، عدد ممن تقدمهم لنا الشاشات بوصفهم "خبراء" و"باحثين" "سابقين في مجال ما" ويبدأوا نقاشاتهم، حتى يتساءل المرء لماذا ترى الشاشات لا تعرض على الجمهور في زواياها ما يؤكد "خبرة" هؤلاء و"صدقية بحوثهم" وأشياء تتعلق بهم طالما أن ما يدلي به أغلبهم، وللأسف" لا يؤكد المكانة أو المنصب أو أي شيء يعزى إليهم. حسنا قد يقول قائل هنا: ولكن ما دخل المرحوم هيكل في هذا؟ للإجابة على هذا السؤال المشروع، إليكم هذه الحكاية التي تروى عن هيكل، ولطالما أكد لنا صحتها بنفسه.
تقول الحكاية أنه ذات مرة كان يجلس كعادته الأقرب إلى قلبه، وسط مجموعة من كتاب وصحافيين ودبلوماسيين عرب يتبادلون الأحاديث الودية. في لحظة ما سأله واحد من المتحلقين من حوله عما يمكنه أن يستخلص، في مجال التحليل السيكولوجي للشخصيات العربية، بالنسبة إلى السمة الرئيسية التي تطبع شخصية الفرد النخبوي في كل بلد. فراح الصحفي الكبير كعادته يحلل كل شخصية من الشخصيات، المصرية والسورية والتونسية واللبنانية والسودانية والفلسطينية... إلى آخره. وذات لحظة قال مستطردا: "أما الجزائري....." فما كان من كاتب جزائري مشارك في الحديث إلا أن قاطعه صارخا بغضب وعدوانية: " ... إيش؟ ما للجزائري؟ ماذا لديك ضد الجزائري؟ بماذا تريد أن تصف الجزائري؟". وهنا ابتسم هيكل متفكها وقال له بكل بساطة مشيرا إلى وجهه المتجهم ونظرته الغاضبة: "ما أقوله عن الجزائري هو هذا بالضبط...".
طبعا لم يرد هيكل أن يهين محدثه الجزائري هو الذي كان وبقي طوال حياته يكن للجزائريين ودا خالصا إنطلاقا، مما سيقول لنا في أحاديث عديدة معه من أن ما اكتشفه طوال حياته هو أن الجزائريين كما الفلسطينيين هما الشعبان الأكثر طيبة وبساطة بين الشعوب العربية كافة رغم المظاهر التي دائما ما قالت عكس ذلك. ولكن لماذا ترانا نستذكر هذه الحكاية هنا؟
ببساطة لأن الأستاذ هيكل إستطرد مرة وهو يرويها لنا آخر أيامه أنه إنما استفاد من خلالها درسا بالغ الأهمية حتى وإن بقيت لديه شكوك جدية حول صحته. وهو أن ثمة في ميدان السيكولوجيا الجماعية ما يفتح الباب على الأرجح أمام نوع من الإتكال على الخلفية "القطرية" ولا سيما لدى نوع معين من الإعلاميين العرب – بوصفهم قطاعا هاما هو الأكثر بروزا من بين قطاعات النخب العربية -، يمكن للمراقب المهتم أن يستكشف انتماءهم القطري من خلال سلوكهم حين يصبحون جالسين إلى طاولة النقاش التلفزيونية وقد دُعوا لتوضيح رؤيتهم إلى ما يحدث، أمام كاميرات تنقل صورتهم وأقوالهم إلى ملايين المشاهدين. وهذا ما نرصده اليوم في عالمنا العربي ولا سيما على الشاشات الرئيسية وفي برامج الحكي التي نشير إليها. فهنا حسب المرء أن يصغي إلى ما يقال ويرصد مقدار التوتر أو الحياد أو الهدوء الذي يطبع سلوك وتصرفات "المتحاورين" حتى يجد نفسه منساقا إلى تفكير "نظرية هيكل" بشكل أو بآخر.
وذلك بالتحديد من خلال المقارنة بين أولئك المتحاورين حيث قد يكون أول ما يلاحظ هو كيف أن كل محاور إنما يبدو وكأنه يعكس توجها ما وفكرا ما حتى من قبل أن يفتح فمه ليتكلم وغالبا دون أن يدرك ذلك. ولعل في مقدور الراصد المتنبه أن يلاحظ هنا كيف أن الآتين من مناطق وبلدان "ممانعة" حتى ولو لم يكونوا هم أنفسهم "ممانعين"، يجمع بينهم توجه يتسم بقدر كبير من التوتر والغضب والتهديد والوعيد، وهؤلاء يكونون عادة آتين من بلدان ما كان يسمى بـ"الربيع العربي" سواء كانوا قد شاركوا في ذلك الربيع أو استنكفوا عن ذلك منذ البداية أو خاب أملهم به لاحقا فأعلنوا ندمهم حتى على الإطاحة بمن كانوا يعتبرونهم "دكتاتوريين"!
في المقابل لا بد من ملاحظة بالغة الأهمية، حتى وإن كانت تفتقر إلى الدقة العلمية، وفحواها أن البلدان والمناطق العربية الأخرى، وبخاصة منها بلدان الخليج العربي، والمغرب والأردن وغيرها، تتميز، بالنسبة إلى المداخلات التي يشارك بها كتاب ومفكرون آتون منها، بقدر لا يستهان به من الهدوء والعقلانية في عرض محاججاتهم هم الذين تؤكد تلك المداخلات ارتباطهم نفسه بقداسة وصوابية القضايا الأساسية التي يعبرون عنها. ومن الواضح أن القضية الأولى ليست قضية مضمون. ففي النهاية يرشح دائما من كلامهم أن العدو واحد والقضية واحدة لكن الإختلاف يكمن في طريقة التناول وتصور الحلول وغير ذلك من فروق ماثلة بين تصورات شديدة التنوع للسياسة والحكي السياسي. وهي فروق لعل كاتب هذه السطور كان قد سبق له التعبير عنها قبل نحو عقدين من السنين وبالتحديد حين انطلقت، على سبيل المثال، قناة العربية كفعل إعلامي عربي شامل لتنافس قناة الجزيرة التي كانت تحتكر تلك المهمة نفسها. يومها وعلى الصفحة الأولى من صحيفة "الحياة" نشرنا نوعا من "مقارنة" كانت غايتنا منها أن نستبق مقارنة كانت تلوح لنا ممكنة ومتوقعة بين نمطين في الإعلام العربي: نمط يقوم على الصراخ والزعيق، تميزت به "الجزيرة" في ذلك الحين وكان نموذجه "الأطرف" صديقنا فيصل القاسم الذي كان في برنامجه يغذي غرائز ضيوفه محرضا واحدهم على الآخر ثم يسر لنا على حدة بأنه هو نفسه ضد تلك السياسة. ونمط آخر كنا نراهن على انطباع حواريات "العربية" به وهو نمط لعلنا لم نكن مغالين حين أطلقنا عليه إسم "نموذج عبد الرحمن الراشد" – على سبيل توجيه التحية إلى عقلانية المواقف وهدوء اللغة الذي ميز ويميز دائما هذا الإعلامي السعودي العربي الكبير -. واليوم بعد كل تلك السنوات يخيل إلينا أننا لم نكن مخطئين في رهاننا. وهو رهان لعل عنوانه الأساس بالنسبة إلينا يتكشف من خلال محاورين يبدو أن كلا منهم يعكس اليوم، ليس بالتحديد سياسة بلده أو حكومته، ولكن بشكل مؤكد مستوى الوعي الذهني الي خلقته التطورات الأخيرة بين نمطين من تفكير عربي، والذي كان من شأن أستاذنا هيكل أن يجد فيه ما يعزز نظرته غير العلمية على أية حال – ولكن التي يمكن توصيفها بأنها رمية من غير رام! – التي ولدت لديه في تلك الجلسة التي ربما باتت منسية بعض الشيء اليوم.