: آخر تحديث

الثورة السورية بين المسار والانحراف

7
7
5

لم تكن الثورة السورية حدثًا استثنائيًا في سياق التاريخ السياسي، بل جاءت امتدادًا لديناميات عرفتها ثورات كبرى سبقتها، كما وصفها كرين برينتون في كتابه "تشريح الثورات". يتناول برينتون المراحل المتكررة التي تمر بها الثورات: بدءًا من السخط الشعبي، مرورًا بالفوضى والتشرذم، وصولًا إلى بروز قوى راديكالية تفرض رؤيتها، قبل أن تستقر الأمور وفق توازنات جديدة قد تعيد إنتاج النظام القديم بواجهة مختلفة. هذه الديناميكية ليست غريبة على المشهد السوري، حيث انطلقت الثورة بأهداف واضحة، لكنها سرعان ما انحرفت بفعل تدخلات داخلية وخارجية، أبرزها دخول الفصائل الراديكالية والمشاريع الإقليمية التي وجهت مسارها وفق مصالحها الخاصة.

لم يكن سقوط النظام السوري في 8 كانون الأول (ديسمبر) 2025 مجرد نهاية لمرحلة، بل بداية لفوضى منظمة أُسندت قيادتها لمن لم يكونوا في صدارة الحراك، ما يعكس المفارقة التاريخية التي يشرحها برينتون حول مآلات الثورات. بين التدخل التركي عبر فصائل مثل فصيل سيء الذكر المجرم المرتزق "أبي عمشة" التي حوّلت وجهة الصراع بعيدًا عن النظام، والدور القطري التخريبي الذي فاقم الانقسامات، نجد أنَّ الثورة السورية لم تفقد بوصلتها فحسب، بل أصبحت نموذجًا معقدًا لما يمكن أن يحدث عندما يتم اختطاف الحراك الشعبي لصالح قوى لا تمت له بصلة.

كما أن سكوت الدول الكبرى التي ادعت دعم الثورة، بينما تركت في الواقع النظام وشأنه ليستعيد أنفاسه، ساهم في تحريف مسارها وعسكرتها ودخول المرتزقة إليها. فهل يمكن بعد هذا التشريح إعادة توجيه الثورة السورية نحو مسارها الصحيح؟ وهل لا يزال هناك أمل في تحقيق نظام مدني ديمقراطي - علماني - لا مركزي - فيدرالي - يستوعب جميع السوريين بعيدًا عن الحسابات الضيقة والتدخلات الخارجية؟ هذا ما يحاول المقال تفكيكه عبر قراءة معمقة - ما أمكن - للحالة السورية في ضوء نظريات برينتون حول الثورات الكبرى.

يتناول كتاب "تشريح الثورات" للكاتب كرين برينتون دراسة شاملة لأربع ثورات كبرى شهدها التاريخ: الثورة الإنكليزية، والثورة الأميركية، والثورة الفرنسية، والثورة الروسية. يتميز الكتاب بتحليل عميق للمراحل التي تمر بها الثورات وتقديم إطار عام لفهم ديناميات التغيير الجذري في المجتمعات. يرى برينتون أنَّ كل ثورة تبدأ بحالة من السخط الشعبي نتيجة فجوة متزايدة بين تطلعات الناس والواقع المعيشي، ثم تمر بمراحل من الفوضى والتطرف، وصولًا إلى حالة من الاستقرار الجديد التي قد تعيد إنتاج النظام القديم أو تقدم نموذجًا مغايرًا.

لقد ركز الكتاب على دراسة الثورات الأربعة الكبرى التي شكلت نقاط تحول في التاريخ، مثل الثورة الإنكليزية (1642 - 1651) التي قادها أوليفر كرومويل ومثلت صراعًا بين الملكية والبرلمان، وأسفرت عن إعدام الملك تشارلز الأول وإقامة الجمهورية لفترة قصيرة، وكان لصعودها تأثير سلبي على الكرد، من خلال جعل كردستان والكرد ضحايا لسايكس بيكو 1916. أما الثورة الأميركية (1775 - 1788) التي قادها جورج واشنطن وتوماس جيفرسون وجون آدامز وبنجامين فرانكلين وغيرهم، فقد أدت إلى استقلال المستعمرات الأميركية عن الحكم البريطاني وتأسيس الولايات المتحدة. فيما كانت الثورة الفرنسية (1789 - 1799) التي قادها ماكسيمليان روبسير وجورج دانتون وجانبوب مارا ونابليون بونابرت نقطة تحول تاريخية، إذ أدت إلى انهيار النظام الملكي وإقامة الجمهورية الأولى، بينما شهدت روسيا (1917) ثورة قادها فلاديمير لينين وليون تروتسكي وجوزيف ستالين وأسفرت عن سقوط النظام القيصري وصعود البلاشفة إلى السلطة.

يرى برينتون أنَّ هذه الثورات، رغم اختلافاتها، تتبع نمطًا مشتركًا يبدأ بالسخط الشعبي ويتطور إلى فوضى، ثم تصل إلى ذروتها مع صعود قوى راديكالية، قبل أن تعود إلى حالة من الاستقرار الذي قد يعيد إنتاج النظام القديم بواجهة جديدة. تمر كل ثورة بمراحل تبدأ بتفاقم السخط الاجتماعي والاقتصادي، مرورًا بالفوضى والتشرذم السياسي بين القوى المتنافسة، ثم بروز الأطراف الراديكالية التي تفرض رؤيتها الخاصة، لينتهي الأمر في أغلب الأحيان باستقرار النظام بعد أن يكون قد مر بعملية تحول جذري.

الثورة السورية في ضوء تحليل برينتون
عندما اندلعت الثورة السورية في عام 2011، كانت انعكاسًا لسخط شعبي تراكم لعقود نتيجة الاستبداد والقمع واحتكار السلطة والثروات. انطلقت الاحتجاجات بآمال كبيرة في تحقيق تغيير جذري وسلمي نحو الحرية والكرامة، إلا أن المشهد السوري سرعان ما تحول إلى صراع مفتوح نتيجة عوامل داخلية وخارجية. لم يكن النظام السياسي في سوريا استثناءً من أنظمة أخرى تعاملت مع الثورات بالقمع المفرّط، لكن خصوصية الحالة السورية تكمن في دخولها سريعًا إلى دوامة الفوضى، التي لم تقتصر على المواجهة بين النظام ومعارضيه، بل امتدت لتشمل تناحرًا داخليًا بين القوى الثورية نفسها، ما أدى إلى إضعاف الزخم الثوري وإطالة أمد الصراع، وكان هذا التناحر بسبب الدور التركي المخادع بالإضافة إلى المال القطري، ناهيك عن التدخل الإيراني المباشر عبر أدواته الأخطبوطية، وهكذا بالنسبة لروسيا بوتين، من دون أن ننسى هنا تخاذل الأسرة الدولية - لا سيما أميركا - بما كان يخدم إسرائيل التي لم تجد من يؤدي وظيفتي الأسدين، من بعد إسقاط نظام الطاغية الأسد.

ومع تفاقم الفوضى، ظهرت الفصائل المسلحة وبدأت تتنافس على السيطرة، وهو ما يتفق مع ما وصفه برينتون في نظريته حول دخول القوى الراديكالية على خط الثورات. هذه القوى لم يكن هدفها إتمام المشروع الثوري بقدر ما كانت تسعى لترسيخ نفوذها وخدمة أجنداتها الخاصة، كما فعلت بعض الفصائل المدعومة من قوى إقليمية، والتي بدلاً من مواجهة النظام، وجهت سلاحها ضد المكونات السورية الأخرى، وعلى رأسها الكرد، في محاولة لضمان مصالح القوى التي تقف خلفها. هذا الانحراف عن المسار الثوري جعل من الممكن اختطاف الثورة السورية واستغلالها لتحقيق أهداف تتناقض تمامًا مع المطالب الأصلية للثائرين.

لم تكن تركيا غائبة عن المشهد، بل لعبت دورًا بارزًا في توجيه مسار الثورة وفق مصالحها، عبر دعم فصائل موالية لها واستخدامها كأدوات بدعوى إضعاف الدور الكردي الذين تخشاه أنقرة، ومن هنا فإنَّ أكثر الفصائل التي تتسيد اليوم دمشق تأسست على الارتزاق من هذه الجهة أو تلك، وليس لديها أي مشروع وطني. هذا التدخل الإقليمي والدولي، الذي لم يكن بعيدًا عن مخططات الدول الكبرى، أدى إلى تعقيد الوضع السوري، وجعل الثورة تنحرف عن مسارها الطبيعي، حيث باتت القوى المهيمنة ليست تلك التي أسقطت النظام، بل من أُسند إليها شرف ذلك عبر المصادفة أو عبر ترتيبات إقليمية. إلى جانب ذلك، لعبت قطر دورًا تخريبيًا في الثورة السورية، إذ سعت إلى توجيه الحراك الشعبي وفق مصالحها الخاصة، عبر دعم فصائل معينة وتسليط الضوء إعلاميًا على أطراف محددة دون غيرها.

آفاق المستقبل ومسار التحول
يمكن القول إنه على عكس الثورات الكبرى التي انتهت بمرحلة استقرار، فلا تزال سوريا بعيدة عن تحقيق ذلك، إذ إنَّ النظام الجديد يحاول إعادة فرض نفسه بالقوة، فيما تتصارع الفصائل على مناطق النفوذ دون رؤية واضحة لمستقبل البلاد. ومن هنا فإنه من الضروري أن يعمل السوريون على استعادة المبادرة، بعيدًا عن حكم العسكر - وإيجاد صيغة جديدة تحقق تطلعاتهم، بعيدًا عن المشاريع الراديكالية أو الأجندات الإقليمية. حيث يجب أن يكون الهدف هو بناء نظام مدني علماني يضمن مكانًا لجميع السوريين، ويكرس مفاهيم المواطنة بعيدًا عن الإقصاء والاستعداء المتبادل بين المكونات المختلفة.

إنَّ الدرس المستفاد من تجربة الثورة السورية هو أنَّ التغيير لا يأتي بمجرد إسقاط النظام، بل يحتاج إلى رؤية واضحة لبناء المستقبل. التحول الديمقراطي لا يتحقق إلا بوجود قوى سياسية واجتماعية قادرة على تجاوز النزاعات الضيقة، ووضع مصلحة البلاد فوق الحسابات الفئوية، إلا أن كل رجالات المعارضة الذين أسهموا في فضح النظام وإسقاطه مغيبون عن المشهد السياسي الجديد، تمامًا. لكنه رغم كل الأخطاء والانحرافات التي شهدتها الثورة، لا يزال هناك أمل بأن تتجه الأمور نحو مسار أكثر نضجًا، خاصة إذا أدرك السوريون أن خلاصهم لا يكمن في الاستقطاب والصراعات، بل في التوافق على مشروع وطني يجمعهم على مختلف مللهم ونحلهم، ضمن بوتقة واحدة، لاتنفي الخصوصية بل تعززها، في إطار المشروع الوطني، في أعلى صوره ونماذجه.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف