واجهت منطقة الشرق الأوسط خلال القرن الماضي والقرن الحالي أوضاعاً مضطربة كثيرة أثرت على السلام والأمن فيها، ولأنها منطقة استراتيجية تلتقي وتتشابك فيها المصالح الدولية، فإنَّ هذه الاضطرابات أثرت بطرق غير مباشرة على السلام والأمن في العالم. ولكن عندما نقوم بإعداد قائمة بهذه الاضطرابات من حيث تأثيراتها السلبية على السلام والأمن في المنطقة والعالم على حد سواء، فإننا لا نجد أيّاً منها يصل إلى مستوى الاضطراب الحاصل من وراء الدور الذي يقوم به النظام الإيراني طوال السنوات الـ 46 المنصرمة.
الحالة الإيرانية تختلف تماماً من كل النواحي عن الحالات الأخرى التي نجمت أو تنجم عنها الاضطرابات، إذ إن الأخيرة تأتي في سياق محدد يرمي إلى تحقيق هدف معين لفترة محددة وتتأثر بالمناخ الدولي، وحتى تتأثر بصورة أو أخرى بالقرار الدولي وتنصاع له، لكن الحالة الإيرانية تختلف تماماً، فهي تأتي من خلال ارتباطها بمشروع سياسي – فكري – اجتماعي متكامل قائم على أساس نظرية دينية صارمة، ولا يرتبط المشروع بجدول زمني محدد، كما أن تقبلها للقرار وللإرادة الدولية يتسم بالضبابية والتمويه، كما هو واضح في تدخلاتها في المنطقة وفي برنامجها النووي.
إقرأ أيضاً: سقوط الأسد وتأثيراته على إيران
الصراع العربي – الإسرائيلي، مع كل الجوانب المختلفة له بما فيها الجانب الديني، ومع كل الجوانب الخطيرة والحساسة فيه، يمكن الإمساك بلجامه وإيقافه عند حدوده، كما أن هناك نهايات واضحة له مبنية بعضها على الأرض مقابل السلام، أو حل الدولتين أو المشروع الإبراهيمي وما إليه، لكن الحالة الإيرانية ليست كذلك، فهي وكما يحدث منذ تأسيس النظام المبني على أساس نظرية ولاية الفقيه، تعتبر نفسها فوق كل الاعتبارات وترى مواجهتها مواجهة مع الإرادة السماوية، وهي بذلك كالمطلق في مواجهة النسبي.
في الحروب والمواجهات التي جرت خلال القرن الماضي والحالي، نجد أنها – باستثناء الحروب والمواجهات التي جرت بتأثير من الحالة الإيرانية – كانت تخضع لحكم العقل والمنطق والواقع، بيد أن الحروب والمواجهات الناجمة عن تأثير الحالة الإيرانية تكاد أن تختلف حتى عن سياق الحروب التي جرت عبر التاريخ العربي – الإسلامي نفسه، إذ حتى هذه الحروب قد خضعت لحكم العقل والمنطق. وبهذا الصدد، لو نظرنا إلى حرب تموز (يوليو) 2006، التي أثارها حزب الله المعروف بولائه المطلق لطهران، وحرب السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، التي أثارتها حركة حماس المرتبطة بطهران أيضاً، فإنه وبالرغم من أن إسرائيل حققت نصراً وألحقت هزيمة بالمعنى الحرفي للكلمة بالطرفين المذكورين آنفاً، فإن أدبيات إيران ووكلاءها مصرة على وصف هاتين الهزيمتين بالنصر المؤزر. ولم نقرأ عبر التاريخ الإسلامي أن معركة أحد كانت نصراً للمسلمين، ونفس الشيء بالنسبة إلى معركة بلاط الشهداء التي انتهت بهزيمة الجيش الإسلامي الذي كان بقيادة عبد الرحمن الغافقي والي الأندلس ومقتله. وهذا بحد ذاته يؤكد أن السلام، وعلى مر التاريخ، لم يكن ذو منطق ديماغوجي أو غوغائي يرفض الحقيقة والواقع ويحاول إغراق المسلمين في أوهام مختلقة كما أصرت وتصر الحالة الإيرانية.
إقرأ أيضاً: الأرنب العراقي في انتظار خامنئي
من المهم، بل وحتى من الواجب، أن ننوه بأن لإيران دورها المميز في التاريخ ولها أفضالها في المجال الحضاري والإنساني لا يمكن إنكاره، لكن الحالة التي أوجدها النظام القائم في إيران منذ 46 عاماً هي حالة فريدة تشبه تلك الحالات التي ظهرت عبر التاريخ الإسلامي نظير الخوارج وحركة القرامطة أو الحشاشين، التي رغم كل ما قد قامت به، فإنها ذهبت إلى غير رجعة. ولكن ذهابها لم يكن من تلقاء نفسها، وإنما بناءً على أسباب وعوامل، ولعل أهمها أن هذه الحالات كانت سلبية وخارج الإطار الإسلامي. ومن دون شك، فإن الحالة الإيرانية التي تبدو من خلال منطقها المتسم بعبثية وفوضوية واضحة، قد لعبت ولا تزال تلعب دوراً بالغ السلبية، لا يؤثر على أمن واستقرار البلدان فقط، بل وحتى على العقول. ومن يتصور أنه بالإمكان إيجاد ثمة سبيل للتعايش والتأقلم مع هذه الحالة، فإنه يبني قصوراً في الهواء، إذ إن الحالة مبنية على نظرية دينية متطرفة واضحة ترفض الآخر، وإن تقبلته فإنه إلى حين، ولذلك فإن المنطقة بشكل خاص، والعالم بشكل عام، يشبهان من يربون أفعى سامة أو ضبعاً في أحضانهم على أمل تدجينه!