: آخر تحديث

أما السنة المُنقضية فإننا مَدينون لها بالاعتذار

4
6
5

كنا في سنوات ماضية نقول عند رأس كل سنة جديدة إن السنة الراحلة قد حدث فيها كذا وكذا، وكانت صيغة الفعل كما ترى هي صيغة الماضي، وكان المعنى أن ما شهدته قد جرى فيها وانتهى عندها، وأن علينا بالتالي أن نلتفت إلى السنة الجديدة.

والسنوات الماضية المعنية ليست ماضية إلى الحد الذي يمكن أن نتصور معه أنها بعيدة عنا كل البُعد، فهي لم تكن كذلك؛ لأن بيننا وبينها كما سوف نرى رمية حجر.

وإذا كنت أقول «كُنا» فلأن الزمان قد دار علينا دورته، فإذا بنا نتطلع إلى السنة التي بالكاد لملمت أغراضها، فلا نستطيع إخضاعها لقوانين السنين التي سبقتها. فهي نسيج زمني فريد في نوعه، وهي ليست ككل السنوات؛ لأننا عندما نتطلع إليها نجد أنفسنا عاجزين عن الحديث عنها بصيغة الماضي. وكيف نتكلم عنها بهذه الصيغة بينما كل ما جرى فيها من الأحداث الكبرى لم يقع فيها ولم يتوقف عند آخرها؟ لقد جاءها زاحفاً نحوها من سنوات سابقة عليها، ثم غادرت هي لتترك من ورائها ما ورثته، ولم يكن أمامها إلا أن تُسلّم ما تسلمته هي!

إن الحرب الروسية - الأوكرانية لم تكن من بين بنات السنة المغادرة، ولا حتى كانت من بين بنات السنة السابقة عليها، ولكنها اشتعلت في الرابع والعشرين من فبراير (شباط) 2022، ثم دامت معنا ومع العالم في السنة التالية، وهي مرشحة لأن تدخل عامها الرابع في 24 من الشهر المقبل، إلا أن يشمل الله هذا العالم برحمته، وأن يفي الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب بوعوده، فيذهب مباشرةً إلى وقفها حين يدخل مكتبه البيضاوي في العشرين من هذا الشهر.

وهكذا، فإننا حين نتطلع إلى السنة المنقضية لنستعرض ما كان فيها من أخطاء لعلنا نتفاداها في مقبل الأيام، لا يمكننا اعتبار الحرب الروسية - الأوكرانية مما جرى في أيامها؛ لأن هذه الحرب إرث آل إليها وليس مما وقع فيها.

فإذا رأينا أن الحرب الروسية - الأوكرانية من الزمن الماضي، وأنه من الظلم أن نضعها على كاهل 2024، فسوف نتعثر في حرب أخرى هي الحرب في السودان، وسرعان ما سوف يتبين لنا أنها لا فرق بينها وبين حرب الروس والأوكرانيين، حتى ولو بدا لنا عند الوهلة الأولى أنها من بين بنات السنة التي انقضت وغادرت بالكاد.

نتطلع إلى هذه الحرب في السودان، ولا نأسف على السنة المنقضية؛ لأنها جاءت وفي جعبتها الحرب بين الجيش الوطني السوداني و«قوات الدعم السريع»، ثم نكتشف أننا ظلمنا 2024 للمرة الثانية، وأنها لم تنجب الحرب في السودان، ولا صلة من صلات البنوة أو الأبوة أو الأمومة بينهما، وأنها سنة بريئة مما نظن أنها جاءت به على رؤوس الناس.

نكتشف ذلك فلا نعرف كيف نداري خجلنا من هذه السنة التي غادرت، فنجرب حظنا مع حرب الإبادة التي تشنها حكومة التطرف في تل أبيب على الفلسطينيين في قطاع غزة. نفعل ذلك ونحن نتخيل أن السنة المنقضية لن تستطيع أن تكابر هذه المرة، إذا ما واجهناها بالحرب التي خلفت وراءها ما يزيد على 150 ألفاً بين قتيل وجريح في القطاع.

ولكن هذه الحرب الثالثة هي كذلك من بنات 2023، ولا قرابة لها من أي نوع بينها وبين 2024، وكل ما جرى أن السنة الأخيرة جاءت من رحم الغيب فوجدت الحرب على القطاع تنتظرها، فلما جمعت أشياءها وأغلقت وراءها الباب، كانت الحرب مستمرة تأكل الفلسطينيين في غزة، وكان العالم واقفاً في مكانه يشجب في أقصى حالاته ويعترض.

سوف نصل في النهاية إلى حصيلة مؤداها أننا مدينون باعتذار للسنة التي ودّعناها قبل ساعات؛ لأنها لم تكن جانية في كل ما وضعناه على كتفيها، ولم تكن ساعية إلى حرب من الحروب الثلاث، ولكنها كانت مجنياً عليها بلغة أهل القانون.

سوف نصل إلى حصيلة تقول إنه لا توجد سنة سيئة أو سنة جيدة، ولكن يوجد بشر هُم الذين يملأون السنة بما فيها، والغريب أنهم يضيقون بها إذا ما شارفت على نهايتها ويستعجلون رحيلها، وكأنها هي التي فعلت أو هي التي ارتكبت. تأتي السنة الجديدة بدفتر أبيض لا شيء فيه، ولكن الإنسان هو الذي يملأ دفترها بما يمارسه في حق أخيه الإنسان.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد