: آخر تحديث

‎أبوظبي.. شمس تشرق في القلوب

5
5
5

صبحة الراشدي

‎درجت نحوها وخطت قدماي مسافة طويلة في رمالها، وفي كل مرة أتنحى جانباً لأحتضن هواءها وأضمها إلى صدري، وأتنفس الصعداء، وأخرج نفساً طويلاً. أتلذذ بتغلغل ذاتها بين جوانحي، أتأملها وأتساءل: هل الشمس تحجب من مواطن لتشرق في مواطن أخرى، يطيب لها أن تفرد ذراعيها وتحتوي أرضها لتنفرد بأشعتها وضيائها في وطن واحد. أشعر أحياناً وكأن الشمس تحجب من الأرض بأكملها لتشرق هنا فقط في سمائنا، في سماء أبوظبي القريبة الحانية. إعجاز كوني، وكأنها تشرق في نفس كُل واحد منا، تتسلل بهدوء إلى دواخلنا لتُبهج أرواحنا وتدخل السكينة إلى قلوبنا. في الحقيقة لها فلسفة مختلفة كالنقطة المُفْرَدة، نقطة لا يُوجد فيها مشتق المتغير الأصلي، بينما تحتوي معها كل المتغيرات.

‎عند مشرق الشمس يتسلل هواء عليل، نسيم معطر تعتدل فيه الرياح، وتهب معه هبوباً لينة معتدلة معطرة بين جوارحنا، وكأنما طير يلوح بجناحيه. ألجم فؤادي، أشعر حينها وكأنني فارغة الفؤاد على أطراف نهر عجاج يسمع لمائه عجيج، يتراقص بأمواجه الزرقاء في ليلة قارة، أولى ليالي يناير على ضفاف النهر، وانعكاس ضوء الإكليل الذي يطوق عنق السماء، ها هو القمر يبهر النجوم ليغمرنا بضيائه، وليزين سواحلنا الخضراء بجماله المعتاد. دهشت وطار صوابي كما تطير البوم من أوكارها، مناظر تذهل العقول، توسطت بحارها، استغرقتني أسرارها، وأبحرت بأحلامي على رمالها إلى تلك الطفولة التي عشناها، إلى تلك الرمال الحمراء الممتدة، المتصلة بعضها بعضاً، تبدو لنا من على البعد إذا نظرنا إليها وكأنها سلاسل من الذهب. في كل ليلة قبل المغيب اعتلي قمتها، وارتفع لائذة بالصمت، ويتسلل إلى غمدي هواء منعش، وهبوب لينة، أخرج ما في صدري من الحنين والشوق إلى تلك الديار.

‎لا أخشى لومة لائم، فهي عشقي ومسقط رأسي، عشق تدفق من حنايا الماضي شعوراً استصعب علينا وصفه. كل ليلة عند دلوك الشمس وميلانها للغروب، نجد على جانبها زاملاً من الإبل، ونجد أنثى ناقة بعد أن تجاوزت الخامسة وزاد جمالها. أقبلت معشوقات أجدادي «المجاهيم» نحو الحوض، وعلى مرأى ومسمع من الناس، يسمع لها حنين، تتدفق مسرعة دون أن تتشرذم أو تضل مرتعها، بعد أن أعطشها وأظمأها السير الطويل. يسري لجامها على مبتغاها، قضى سواد الليل على الأقدام رويداً رويداً، دبت السكينة والطمأنينة. هو الله الخالق البارئ الذي ينزل السكينة على عباده.

‎من هنا يسعى كل منا ليحتطب الحطب، ويضم بعضه إلى بعض، ليشب النار ويزيدها اشتعالاً ودفئاً على الصغير قبل الكبير، في ليلة شديدة البرودة. يتدثر كل منا تحت لحافه من دثار البرد، يغمس لنا مع الخبز لبناً حلو المذاق. ومن أجمل صنيعهم، وما لا يمكن الغفلة عنه أو نسيانه، عندما تراود أجفاني ويغلبها النعاس، ويثقلها الكرى، تطبق على مسامعي أصوات تغني طرباً وترنماً بالكلام الموزون، والمعاني التي تحفر في قلوبنا على مر السنين، فإن كان هناك منا من يعتاده الهم ويعاوده مرة بعد مرة، يعدل ويميل عنه، بعد أن يشارك به الجميع، ويأخذ ما يطيب خاطره من أصحاب الأعين النافذة، وينهي به ضجيجه الداخلي.

‎وبين الساحلين مئذنتان، تجمعهما مآذن صغيرة، ومن بينها مئذنة تعم أرجاء المدينة، ملونة كأنما هناك من ينسج الحرير الأبيض المطرز بلون الذهب المزين بالجواهر الملونة، تميزت بصنع صانع له من الهندسة خيال ما يبهر.

‎هذه هي مدينتي «أبوظبي»، وهذا هو عبق رائحتها، من هنا كانت طفولتنا، ومن هنا بزغ أول حلمنا، يصنع الياقوت من أحجارها، ويؤخذ الألماس من ترابها، فهي «هوى لاعج»، وعشق لا مثيل له. سلامي إلى مدينة السلام أبوظبي، إلى رمالها وسلاسلها الذهبية، إلى بحارها، إلى نجومها، وكواكبها، تحية من القلب إلى مدينتي التي تحلو فيها الأسمار، ويطيب فيها الليل. اللهم عاماً جديداً يشرق على أرضنا الطيبة. اللهم حصنها بحصنك الحصين، وحبلك المتين، من المحيط إلى الخليج، وسائر بلاد المسلمين.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.