: آخر تحديث
هاشتاك الناس

طبيب عسكري بالصدفة

3
2
3

قبل أسبوع، احتفل الشعب العراقي بالذكرى السنوية الكبيرة لمئة وأربعة سنوات، والتي تخلد إنجازات وأمجاداً وتاريخاً مشرقاً، مليئاً بالبطولات والانتصارات في مواجهة المخاطر. إنها ذكرى معطرة بنياشين الفخر والمفاخر والعبر. وتذكرني بأيام خدمتي العسكرية، التي حصلت فيها على اسم جديد (أبو خليل)، وهو لقب كان يُطلق على العسكريين في الماضي.

بعد التخرُّج من الكلية عام 1973، خضت تجربة فريدة في حياتي، وهي خدمتي في الجيش لمدة عام واحد، فقد كانت إجبارية ضمن القانون لمن يتخرج في الجامعة. وبقدر ما كانت مثار جدل بين الخريجين، ومثار إزعاج لهم؛ لكنني خرجت منها بحصيلة إيجابية في تنشئة السلوك على الصبر والتحمل والانضباط التي يحتاجها كل شاب وهو في أول طريق الحياة.

بدأت خدمتي العسكرية في مركز للتدريب في المنصورية لمدة ثلاثة أشهر، والمتبقي في مديرية الأمور الطبية في معسكر الرشيد. وبقدر ما كانت تجربة في بناء النفس، وتقوية الإرادة، وتعلُّم الصبر؛ فإنها حفلت بالعديد من المفاجآت والنوادر المضحكة.

لقد اكتشفت نفسي بعد مرور أيام بأنني طبيبٌ بالصدفة، وهو ما فتح لي بابًا جميلًا لم أحلم به؛ كثرة الإجازات لزيارة الأهل، وهي بالجيش غنيمة لا تقدر بأثمان - كما يعرفها من خدم به -، لأنك سوف تتخلص من أعباء ثقيلة لم نتعود عليها في حياتنا العادية؛ الاستيقاظ مبكرًا قبل طلوع الشمس، وحلاقة الذقن بمهارة، وصبغ الحذاء العسكري (البسطال)، والاهتمام بالبدلة وترتيبها، وإلا فأنك ستتعرض إلى عقوبة قاسية بالزحف على الركبتين لمسافات بعيدة، وحلق الشعر حتى ولو كان شعرك فيه بعض البويصلات القصيرة، وقد تتعرض أيضًا لعقوبة منعك من الإجازة الدورية، وهي حلم كل عسكري ينتظرها بفارغ الصبر.

كنا ننام في قاعة كبيرة، تضم جميع الخريجين من كليات إنسانية مختلفة في بغداد، وكان ينام بالقرب مني الصديق سعد زناد (الدكتور – فيما بعد) الذي يعيش حاليًا في البحرين، أستاذًا مرموقًا في الجامعات البحرينية. كان مشاكسًا ويحب النكتة، وفي أحد الأيام دخل العريف إلى القاعة، وهو يشتكي مرضًا، وفوجئت به يناديني (دكتور ياس شوف مرض أخونا العريف)، وكان اختياره لي فيه كثير من المصداقية، حيث ملاحمي قريبة للتصديق من حيث النظارة والبشرة.

وهنا بدأت القصة، فانتشر الخبر بين العسكريين، فأصبحت أنادى بالدكتور في المعسكر (وين الدكتور... جوبوا الدكتور)، فجاء الخير مسرعًا بمنحي إجازه لمدة ثلاثة أيام، بعد أن فحصت العريف بطريقة أداء الأطباء، ووجدت لديه بعض التشنُّجات، وأخبرته بضرورة شرب بعض الأدوية، وهي موجودة في بغداد فقط.

كان العريف (جواد) من أهل الله كما نقول في الحياة الشعبية، وهو من أهل العمارة، طيب القلب، ويثق بما أقوله، خاصة بعد شفائه من كل أزمة مرضية بأدوية بسيطة؛ مثل: بعض المسكنات ومهدئات المعدة المعروفة أو بالمضادات الحيوية. وأشعر بسعادته تزدهر كلما أنقذته من المرض. مثلما كنت سعيدًا بكرمه في الإجازات، وتقليل خروجي للتدريب، وتعييني (خفر قاعة) أثناء خروج زملائي للتدريب القاسي.

إقرأ أيضاً: ثقافة التفاخر بالفساد

وبقدر ما شكلت مزحة صديقي (سعد) عبئًا نفسيًا طوال وجودي في التدريب؛ خوفًا من اكتشاف الحقيقة، لكنها فتحت لي أبوابًا لم أكن أحلم بها في الحياة العسكرية، فكان آخر القطف هو يوم توزيع الخريجين على الأفواج والفرق العسكرية بعد انتهاء التدريب. فقد كانت المفاجأة من العيار الثقيل، هو نقلي إلى مديرية الأمور الطبية، وهي خاصة بخريجي كليات الطب والصيدلة.

ويبدو أنَّ الحظ لازمني حتى مغادرتي التدريب، حيث ما زال المركز مصرًّا على أنني (طبيب)، رغم أن سجلات الجيش (الكنية) تُشير إلى أنني خريج قسم الاجتماع! وهذا ما تم اكتشافه أثناء التحاقي بعد يومين في مكاني الجديد، فقد فوجئت الإدارة بأنني لست خريجًا لكلية الطب أو الصيدلة. وسمعت أحدهم يقول من بعيد: "أعيدوه إلى المنصورية... هذا ما يفدينا"، لذلك تم تحرير رسالة لإعادتي إلى مكان التدريب. وشعرت حينها أن كل شيء قد انتهى، ودخلت في غيبوبة اليأس والقنوط!

إقرأ أيضاً: عقول علمية منزوعة الدسم

عدت إلى بيت عمي الذي كنت أسكن معه في محلة (الكرنتينة)، وعرف بالتفاصيل، وحزن هو الآخر، ولكنه بعد ساعات قفز من مقعده، وأخبرني بأن لديه صديقًا بالمنطقة يحمل رتبة نقيب، وهو شخص مهم ومؤثر في المديرية. وسيزوره عصرًا لعلَّه يجد حلًّا للقضية. وفي المساء عاد فرحًا وهو يبشرني بأنَّ النقيب (هاني) بانتظارك صباح الغد في مكتبه.

لم أكن فرحًا طوال الليل بالخبر؛ بل كنت أنتظر شروق الشمس بقلق لمعرفة مصيري. أسرعت إلى معسكر الرشيد، حيث يقع مقر العمل، ووجدت نفسي في إدارة المديرية نفسها التي طلبت إليَّ العودة إلى مركز تدريب (المنصورية)، حيث قدمت نفسي لهم، ووجدت ترحيبًا خاصًا خفَّف - بعض الشيء - من القلق، ثم قدموا لي قدحًا من الشاي المطعم بالهيل مع إبداء التهذيب والاحترام لي.

لقد أبلغوني بأن النقيب سيأتي بعد قليل. واستثمرت وجودي بالمكتب بسؤال أحد الجنود وهو برتبة (نائب ضابط) عن معرفتي بالنقيب، لأستفسر منه عن مدى تأثير النقيب في تثبيتي بالمديرية. فجاء الجواب هامسًا: لا تقلق، كنا صباحًا في مناقشة موضوعك، ستكون معنا! وعرفت لاحقًا بأنه كان أحد قادة التنظيم الحزبي في المديرية.

إقرأ أيضاً: حكمة أن تعيش

وعندما دخلت إلى المكتب الكبير للنقيب فوجئت بأنه كان معه في المكتب عقيد صيدلي بغدادي عريق، له اهتمامات أدبية، وبعد السلام والمجاملة والسؤال عن بعض أهل المنطقة، وتفاصيل عن اهتمامي بالإعلام والأدب والكتابة، هنأني بتعييني كإداري في مكتبه، ابتداء من هذا اليوم.

ومع ذلك رأيتهما مهتمين - من باب الفضول - لمعرفة سر نقلي للمديرية بالخطأ، فحكيت لهما القصة بالتفاصيل المملة، بصدق هذه المرة، ووجدت المكتب يضج بأصوات الضحك القوي من قِبَلهم؛ بينما كنت غارقًا بنشوة الخبر السعيد، ومتذكرًا ما قيل قديماً: رب صدفة خيراً من ألف ميعاد. وما يحدث مرة يمكن ألا يحدث ثانية أبدأ.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف