: آخر تحديث

ما بعد سقوط الأسد: إعادة قراءة المشهد السوري

2
2
2

الثورة بين المفهوم والواقع
لا يختلف اثنان على أنَّ الثورة الحقيقية، في جوهرها، هي تعبير عن إرادة الشعوب الطامحة إلى التغيير الجذري في الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تسلب حقوقها وحرياتها. إنها حركة تنبع من شعور عميق بالظلم والقهر، تهدف إلى تأسيس واقع أكثر عدلًا وإنصافًا. بهذا المعنى المثالي، كانت الثورة السورية في بداياتها- في أشهر ولادتها الأولى- تعبيرًا عن هذا الطموح المشروع، حيث خرج السوريون من كل الفئات والانتماءات يطالبون بالكرامة والحرية بعد عقود طويلة من القمع الممنهج. لكن الحلم الثوري لم يدم طويلاً. إذ سرعان ما انحرفت الثورة عن مسارها العفوي النقي، وتحولت إلى ساحة لصراع المصالح الإقليمية والدولية، بسبب قوى داخلية وخارجية استغلت حالة الفوضى. ما جرى بعد ذلك لم يكن استمرارًا للثورة بمفهومها الأصيل، بل كان نتيجة مباشرة لإعلانها، حيث واجه نظام الأسد، المعتاد على القمع والتنكيل، شعبًا منتفضًا بأساليب أكثر قسوة، مما فتح الباب أمام حرب متعددة الأطراف، أجهضت المشروع الثوري ووضعت سوريا في دوامة مدمرة.

البداية النقية والمآلات المنحرفة
بدا المشهد السوري في ربيع عام 2011، وكأنه إشراقة عصر جديد، من خلال الحلم بتغيير جذري، بعد عقود من الاستبداد. فقد خرج الشعب السوري، من أقصى البلاد إلى أقصاها، متحديًا الخوف والترهيب، ليعلن رفضه للظلم والمطالبة بحياة كريمة ودولة تسودها العدالة والمساواة. لكن هذا الحلم الجماعي سرعان ما تعرَّض للتشويه بفعل عوامل عدة. تدخلت الأيدي الخارجية عبر الهيمنة على مؤسسات المعارضة، مثل المجلس الوطني السوري والائتلاف الوطني، اللذين بديا عاجزين عن الاستمرار فيما أوجدا له، و تقديم مشروع سياسي متماسك، من دون هيمنة الممولين. حيث أُعيد تشكيل هذين الكيانين وفقًا لمصالح دولية وإقليمية، فصارا مجرد واجهتين  ضمن أدوات إطالة الصراع بدلًا من إنهائه، رغم أهمية هذين المشروعين، في لحظة تأسيسهما.

وللأسف، أنه وبمرور الوقت، تغيَّرت طبيعة الحراك الشعبي. إذ ظهرت انقسامات داخل صفوف المعارضة، وتزايدت وتيرة العنف بين الأطراف المتصارعة. من خلال تدخل قوى إقليمية ودولية لدعم أطراف معينة وفقًا لأجنداتها، ما أدى إلى انحراف الثورة عن مسارها الأصلي، واستقطاب عناصر مستقدمين من بلدان العالم لدخول الساحة السورية. حيث بدأ المشهد السوري يتحول إلى مسرح فوضوي حيث اختلطت الأهداف الثورية النبيلة مع أجندات الممولين والداعمين. الإطاحة بنظام الأسد لم تكن مستحيلة في بدايات الحراك، لكن الإرادة الدولية والإقليمية فضلت استنزاف سوريا وشعبها في حرب طويلة الأمد. وهكذا تحولت الثورة إلى فوضى مقصودة، وغرقت البلاد في دوامة من القتل والدمار. في هذا السياق، تحالف التيار العروبوي مع التيار الإسلاموي، وأعيد تعريف المشهد السوري بناءً على أجندات لا علاقة لها بتطلعات الشعب السوري.

مظاهر الرعب والخوف وسط فرحة السوريين
رغم الآمال الكبيرة التي حملها السوريون في بدايات الحراك، فإن المشهد- على الأرض- كان كارثيًا منذ اللحظات الأولى. اختلطت مشاعر الفرح بالخوف والقلق. شوارع المدن السورية، التي شهدت المظاهرات السلمية، سرعان ما تحولت إلى مساحات للرعب مع تصاعد العنف. استخدام النظام للقوة المفرطة ضد المتظاهرين، بما في ذلك القصف العشوائي وعمليات الاعتقال التعسفي، خلق حالة من الذعر. المدن التي كانت يومًا تعج بالحياة أصبحت ساحات للدمار. دمشق وحلب وحمص، مدن كانت رموزًا للحضارة السورية، تعرضت لتدمير هائل. الشوارع التي امتلأت بالهتافات المطالبة بالحرية، امتلأت بالجثث والركام. الأطفال، الذين كانوا يلعبون في الساحات، أصبحوا ضحايا الحرب، سواء كلاجئين في المخيمات أو قتلى في القصف. مشهد القصف العشوائي كان الأكثر إيلامًا. المدن السورية كانت تُضرب بالبراميل المتفجرة والصواريخ دون تمييز، ما أدى إلى مقتل الآلاف من المدنيين الأبرياء. العائلات كانت تفقد كل شيء في لحظة واحدة؛ المنزل، الأحبة، والأمل. حالة الخوف لم تقتصر على القصف فقط؛ الاعتقالات الجماعية والتعذيب في السجون خلقا جوًا من الرعب الدائم.

الكرد بين التهميش السياسي والتمثيل العسكري
بينما كان السوريون يكافحون من أجل حريتهم، ظل الكرد يعانون من التهميش الذي استمر لعقود. الكرد، الذين يشكلون جزءًا أساسيًا من النسيج السوري، لم يحظوا يومًا بتمثيل سياسي حقيقي. منذ تأسيس أول حزب كردي في سوريا عام 1957، ظل الكرد يتعرضون لسياسات الإقصاء والتهميش، ولم يكن الحراك الثوري استثناءً. على الرغم من مشاركتهم الفعالة في المظاهرات السلمية، إلا أنهم وجدوا أنفسهم مُستبعدين من قبل النظام والمعارضة على حد سواء. مناطق الكرد تعرضت لسياسات التهجير القسري والتغيير الديموغرافي، لاسيما المدن التي تم احتلالها من قبل تركيا ومرتزقتها في: عفرين وكوباني وسري كانيي، فقد عانت المجتمعات الكردية من الهجمات المتكررة والتهجير المنظم، حيث أُجبر السكان على مغادرة أراضيهم لصالح قوى مدعومة من الخارج. إلا أنَّ العروبوية والإسلاموية اللتين طغتا على المعارضة- لا أعني أهلنا العرب ولا الدين الذي أحترم وأؤمن به- زادتا من معاناة الكرد، الذين كانوا هدفًا للتيارات" العروبوية الإسلاموية" التي رفضت الاعتراف بتعددية المجتمع السوري. على الجانب العسكري، ظهرت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) كممثل عسكري رئيس للكرد، لا يمكن أن يتم تجاوزه، لاسيما بعد الاتفاق على عودة عناصر ب ك ك إلى مهادهم. رغم الانتقادات التي طالت هذه القوات، إلا أن قسد- وفق تصوري- ظلت أقل انتهاكًا من باقي الفصائل المسلحة. التحالف الدولي أبدى دعمًا عسكريًا لقسد، لكنها بقيت معزولة سياسيًا. لم يُمنح الكرد مكانًا على طاولات الحوار الدولي، مما جعلهم يشعرون بأن نضالهم يُستخدم لتحقيق أهداف الآخرين.

مظاهر الأسلمة المرعبة
مع تصاعد الصراع، بدأ التيار الإسلاموي يسيطر على المعارضة المسلحة. مجموعات مثل النصرة وبقايا داعش وفصائل راديكالية أعادت تشكيل المشهد السوري على أساس أجندات متطرفة، ما خلق حالة من الرعب في المناطق التي سيطرت عليها. لقد فرضت هذه المجموعات قوانينها الخاصة، التي اتسمت بالقمع والتشدد. النساء أُجبرن على ارتداء النقاب، والمدارس أُغلقت أو أُعيدت هيكلتها لتتناسب مع الفكر المتطرف، بعد فرحة التخلص من تبعيث وتأسيد المناهج بما في ذلك التربية الدينية. واحدة من أبرز ممارسات هذه التيارات كانت تحطيم تماثيل الشعراء والمفكرين الكبار، باعتبارها رموزًا للثقافة والفكر. هذا النهج لم يكن محصورًا بداعش، بل تسربت بعض مظاهره إلى جهات أخرى في المعارضة، ما عمق حالة الصدمة لدى السوريين الذين رأوا في هذه الممارسات تحطيمًا لتراثهم الثقافي. كما وصلت هذه المظاهر إلى عزل النساء عن الرجال في وسائل النقل العامة، كالباصات، وهي خطوة أثارت الكثير من الجدل والاستياء. ورغم أن بعض الجهات نفت حدوث ذلك، فإن مجرد تكرار الشائعات حول هذه الممارسات كان كافيًا لإثارة القلق.

إعادة صياغة المشهد بعد سقوط الأسد اليوم، وبعد أكثر من عقد على بداية الحراك، تواجه سوريا واقعًا مريرًا. سقوط نظام الأسد، إذا حدث، لن يكون نهاية المأساة، بل بداية لتحديات جديدة. إعادة بناء البلاد تتطلب الاعتراف بحقوق جميع مكوناتها، وعلى رأسهم الكرد، الذين عانوا طويلًا من الظلم والتهميش. إعادة صياغة المشهد السوري على أسس عادلة تستوجب:

الاعتراف بالتعددية: إذ يجب أن تعكس الدولة السورية المستقبلية التنوع الثقافي والإثني للمجتمع السوري، وأن تُمنح الكرد حقوقهم الكاملة في إطار وطني جامع.

محاسبة المسؤولين عن الجرائم: باعتبار أن العدالة الانتقالية يجب أن تكون جزءًا أساسيًا من أي تسوية سياسية، لضمان محاسبة كل من تورط في انتهاكات حقوق الإنسان.

إعادة الإعمار: حيث لا يقتصر الأمر على إعادة بناء البنية التحتية، بل يشمل بناء مجتمع مدني قادر على تجاوز آثار الحرب.

دعم الحلول السلمية: وذلك تحقيق الاستقرار يتطلب إنهاء الصراع المسلح واعتماد الحوار كوسيلة لحل الخلافات. فما حدث في سوريا لا يمكن وصفه بثورة مكتملة، لأن المآلات شوهت نقاء البدايات. إنها مأساة إنسانية تُظهر كيف يمكن أن تتحول أحلام الشعوب إلى كوابيس بفعل القوى المتصارعة. المشهد السوري اليوم هو نتاج سنوات من القمع والاستغلال السياسي. رغم كل ما حدث، لا تزال هناك فرصة لإعادة بناء سوريا على أسس عادلة. هذا لن يتحقق إلا بالاعتراف بمعاناة الجميع، وعلى رأسهم الكرد، وضمان حقوقهم في المستقبل. الثورة، في بداياتها، كانت حلمًا مشروعًا، لكن ما تبعها كان كابوسًا يجب أن ينتهي يومًا ما.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف