: آخر تحديث

ما مبرر قمع الصحفيين في سوريا؟

3
3
3

لطالما كانت الصحافة تُعتبر صوت الشعوب وصانع التحولات، فهي السلطة الرابعة التي تلعب دوراً محورياً في كشف الحقائق ومساءلة السلطة. إلا أن هذا الدور النبيل تلاشى تحت حكم النظام البائد في سوريا، حيث تم تقييد الصحفيين وتحويلهم إلى أدوات دعائية تُكرّس سياسات النظام بدلاً من أن تُسائلها.

في ظل النظام البائد، أُحكمت السيطرة على الصحافة عبر منظومة متكاملة من التقييد والترهيب، حيث لم يكن للصحفي حرية في اختيار موضوعاته أو صياغة كلماته. فقد جُرّد الإعلام من وظيفته الأساسية كمراقب ومستقل ليصبح خاضعاً تماماً لتوجيه السلطة، لا يعكس سوى روايتها المزعومة للواقع.

كانت الأجهزة الأمنية تُمسك بمفاتيح العمل الإعلامي، حيث قامت بفرض رقابة صارمة على الصحف والقنوات والمواقع الإخبارية. كان هناك ما يُعرف بـ"الخطوط الحمراء" التي لا يمكن الاقتراب منها. هذه الخطوط شملت كل ما يتعلق بالفساد المستشري داخل مؤسسات الدولة، أو إخفاقات النظام في إدارة الاقتصاد، أو انتهاكات حقوق الإنسان.

أي محاولة للخروج عن هذا الإطار كانت تُعتبر "تجاوزاً خطيراً"، يُقابل بالاعتقال، الإيقاف عن العمل، أو حتى النفي. كان الصحفي يعلم جيداً أن أي كلمة قد تزعج السلطة قد تكلفه حريته أو حياته. وهذا خلق مناخاً من الرقابة الذاتية، حيث كان الصحفي يضطر إلى الابتعاد عن أي موضوع قد يُفسّر كمعارضة للنظام، مُفضلاً السلامة الشخصية على البحث عن الحقيقة.

اختفت في تلك الحقبة الصحافة الاستقصائية التي تُعتبر ركيزة أساسية لأي إعلام حر. لم يكن بإمكان الصحفيين إجراء تحقيقات تكشف الفساد أو تُظهر التناقضات بين الخطاب الرسمي والواقع المعيشي. وإن ظهرت بعض التحقيقات الجريئة، فقد كانت موجهة لخدمة أجندات داخلية أو صراعات بين أجنحة النظام.

تحوّلت الصحافة إلى ممارسة سطحية، حيث اكتفى الصحفيون بنقل البيانات الرسمية وتلميع صورة السلطة، فيما غابت القضايا الجوهرية التي تمس حياة المواطنين. بهذا الشكل، أصبح الإعلام أداة تضليل، يخلق صورة زائفة تُطمئن الشعب بينما تتفاقم الأزمات الحقيقية في الخفاء.

لم تقتصر آثار هذه السيطرة على الصحفيين وحدهم، بل امتدت لتشمل الجمهور الذي فقد ثقته في وسائل الإعلام المحلية. مع مرور الوقت، بات المواطنون ينظرون إلى الصحافة كوسيلة تضليل بدلاً من أن تكون مصدراً للمعلومات الموثوقة. وقد أدى هذا الانهيار في المصداقية إلى لجوء الناس إلى مصادر إعلامية خارجية أو وسائل غير رسمية للحصول على المعلومات.

إقرأ أيضاً: "السفير".. أيقونة صحفية لا تُنسى

أما الصحفيون، فقد عاشوا حالة من الإحباط المهني. كثيرون اضطروا لمغادرة المهنة أو العمل تحت مظلة الخوف الدائم من الخطأ، فيما لجأ آخرون إلى الخارج ليجدوا مساحة أكبر للتعبير.

بسقوط النظام البائد، بدأت تظهر ملامح التغيير في المشهد الصحفي. أزيلت بعض القيود، وأصبح من الممكن الحديث عن قضايا كانت تُعد محظورة في الماضي. مع ذلك، فإن إعادة بناء الإعلام الحر ليست مهمة سهلة. فبعد سنوات طويلة من السيطرة والتحكم، يحتاج الصحفيون والمؤسسات الإعلامية إلى استعادة ثقة الجمهور من خلال تقديم محتوى صادق، مهني، ومستقل.

تحديات المرحلة الجديدة ليست أقل تعقيداً. فرغم توفر مساحة أكبر للحرية، لا تزال هناك محاولات من أطراف مختلفة للتأثير على الصحافة لتحقيق مصالحها. لهذا، يحتاج الإعلاميون إلى تطوير أدواتهم وتعزيز قدراتهم على العمل بمهنية بعيداً عن أي ضغوط سياسية أو اقتصادية.

إقرأ أيضاً: كيكل يثير الجدل في النمسا!

إنَّ وجود صحافة حرة ليس مجرد حق يُمنح للصحفيين، بل هو شرط أساسي لبناء مجتمع ديمقراطي. فالإعلام الحر يُسهم في تعزيز الشفافية، مكافحة الفساد، ودفع عجلة التغيير نحو الأفضل.

ومع انبلاج فجر جديد، تقع على عاتق الصحفيين مسؤولية ضخمة: إعادة تعريف دورهم كمرآة تعكس قضايا المجتمع بدقة وموضوعية. عليهم أن يعملوا على تقديم تحقيقات جريئة تكشف الحقيقة دون تحيّز، وأن يصبحوا صوتاً للمواطنين بدلاً من أداة لأي سلطة أو جهة.

ما حدث للصحافة في ظل النظام الأسدي البائد يذكّرنا بمدى خطورة قمع الإعلام، فهو ليس مجرد اعتداء على حرية الصحفيين، بل محاولة لقمع الحقيقة نفسها. ومع تحرر الإعلام من قبضة النظام، هناك فرصة حقيقية لإعادة بناء هذه المهنة النبيلة.

إقرأ أيضاً: هل نعيش أزمة أخلاق؟!

لكن الحرية وحدها لا تكفي. يحتاج الإعلام إلى استثمار في التعليم، التدريب، والتوعية بمبادئ الصحافة الأخلاقية. يحتاج إلى جمهور يُقدّر أهمية الإعلام الحر ويُدافع عنه كجزء من نضال أوسع لتحقيق العدالة والشفافية.

في النهاية، يبقى الإعلام الحر حجر الزاوية لأي مجتمع ينشد الديمقراطية. وما ضاع دوره في الماضي إلا ليعود أقوى، حاملاً راية الحقيقة ومتطلعاً نحو مستقبل يُحترم فيه القلم والكلمة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف