هل تحولت غزة بمساحتها التي لا تتعدى واحداً بالمئة من مساحة فلسطين بما يقارب 340 كيلومترًا مربعًا، ويعيش عليها أكثر من مليوني نسمة، إلى أسطورة تاريخية تحكي قصة نضال شعب يقاوم من أجل حريته وحكاية عالم فقد إنسانيته؟
هذه المنطقة، التي شهدت أربع حروب راح ضحيتها الآلاف من المدنيين ودُمرت بنيتها التحتية التي هي أصلاً بنية منهارة، تعيش حالة حصار مستمر من قبل إسرائيل التي تتحكم في كل منافذها، وتعاني من نقص في كل مقومات الحياة من كهرباء وماء وصحة وتعليم.
ورغم كل ذلك، تقدم اليوم نموذجاً في الصمود والتحدي، ولم يعد سكانها وأطفالها يخافون من صوت الطائرات والصواريخ الإسرائيلية التي لا تغادر القطاع. والسؤال: هل تحولت غزة اليوم إلى أسطورة وقصة تُحكى للأجيال؛ أسطورة نضال وصمود، وأسطورة ظلم الإنسانية، وأسطورة غياب العدالة الدولية، وأسطورة حرب الكل؟
تُثار تساؤلات كثيرة: إلى أين غزة ذاهبة؟ وما هي خياراتها؟ وما مستقبل أبنائها وشبابها وأطفالها؟ وهل تستطيع حماس أن تنفرد بحكم غزة؟ وهل تستطيع أن تحولها إلى إمارة حكم خاصة بها؟ وهل من مستقبل لغزة بدون بقية الأرض والشعب الفلسطيني؟
وقبل محاولة الإجابة السريعة على هذه التساؤلات، نثير سؤالاً مهماً: ما هو وضع غزة في القانون الدولي؟ هل تُعتبر محتلة؟ وهل ما زالت إسرائيل مسؤولة كسلطة احتلال؟ الإجابة مهمة لأنها تحدد مستقبل غزة ومسؤولية إسرائيل وحماس والسلطة، ويترتب عليها تداعيات سياسية وأمنية.
وهنا قد يبرز أكثر من رأي؛ الرأي الأول تؤيده إسرائيل، وهو أنها ليست مسؤولة عن غزة، وبانسحابها منها عام 2005 انسحاباً أحادياً، لم يعد لها مسؤولية. هذا الرأي غير صحيح، إذ يرفع عن إسرائيل المسؤولية في كل حروبها وحصارها لغزة. بل يذهب هذا الرأي أبعد من ذلك، إذ يحمل حماس والمقاومة كامل المسؤولية عن الحرب والحصار وعن ما تعانيه غزة وسكانها من مشاكل اقتصادية واجتماعية وفقر وبطالة.
الرأي الآخر يرى أنَّ إسرائيل مسؤولة كسلطة ودولة احتلال، وتقع عليها كل المسؤولية وفقاً للقانون الدولي واتفاقات لاهاي 1899 إزاء سكان القطاع بتوفير كل الخدمات لهم. هذا الرأي هو الأكثر منطقية وقبولاً قانونياً، انطلاقاً من فرضية أساسية أن غزة جزء لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية، وحيث إن الاحتلال لا يتجزأ، فإن إسرائيل تُعتبر مسؤولة.
والسؤال ثانية: ما وضع الحروب ومن المسؤول عنها؟
المسؤول عنها إسرائيل أساساً بسبب الحصار المفروض. لكن، في الوقت ذاته، طالما أن هناك سلطة مسؤولة في غزة تمثلها حماس، فهنا المسؤولية تقتضي ضرورة التوصل إلى اتفاق تهدئة شامل في إطار السلطة الفلسطينية العامة. هذه التهدئة هي التي تحكم العلاقة، بعيداً عن هذين الرأيين وحجج كل منهما.
فلا شك أنَّ العلاقة بين غزة وإسرائيل شائكة، ولا يمكن النظر إليها من زاوية واحدة. ولا يمكن حصر العلاقة في إطار منفصل عن الكل الفلسطيني.
إقرأ أيضاً: حروب الكبار
غزة، وعلى مدار تاريخها، تحكي وتجسد كل القضية الفلسطينية. فغزة، بعد النكبة، استقبلت الآلاف من اللاجئين لتجسد مخيماتها قضية اللاجئين ولتصبح مركزاً للأونروا. ولعل هذا ما يفسر لنا اليوم لماذا تحاول إسرائيل طمس كل المخيمات فيها.
وفي غزة، نشأت أول حكومة لعموم فلسطين. وبقيت غزة، وعلى كل مراحلها، تعبر عن المعاناة والحصار والاحتلال. وهذه الحرب التي فشلت حتى الآن في اقتلاع وتهجير سكانها وكل قصة فيها تحكي صمود أهلها وتمسكهم بالأرض والبقاء.
ومن مظاهر أسطورة غزة أنها حركت كل الشعوب الرافضة للظلم والاحتلال، وكشفت ضعف الشرعية الدولية أمام قوة السلاح الذي تمارسه إسرائيل. كما كشفت عيوب النظام الدولي.
إقرأ أيضاً: غزة ونظرية دورة الحرب
أسطورة غزة أنها فرضت الحاجة لنظام دولي جديد يقوم على التعددية ونصرة المظلومين. ولعل من أبرز صور أسطورة هذا الجزء الصغير والأصغر في العالم أنه عرى إسرائيل من ديمقراطيتها وكشف الجانب العنصري والمتشدد الرافض للحياة المشتركة والتعايش والسلام.
ويبقى للأسطورة صورة أخرى: غزة ما بعد الحرب وبناء غزة الجديدة التي قد تذكرنا بالنموذج الألماني والياباني. غزة بحاجة إلى كتابة أسطورة جديدة، ليس في إعادة إعمارها، ولكن في إنسانها الجديد القادر على مواصلة الحياة وحمل قيم الإنسانية والقفز على كل ما خلفته الحرب من قيم الكراهية والحقد والثأر.
والسؤال أخيراً: من يقف مع غزة لبناء هذا النموذج الأسطوري الجديد؟