فتحت الحرب الشاملة التي تشنها إسرائيل ضد حزب الله الأبواب أمام نقاش جدي يتعلق بدور الجيش اللبناني وقدرته على حماية البلاد ومواجهة أي اعتداء خارجي.
ودرجت العادة أن يُضاف الجيش اللبناني إلى المعادلة التي أطلق عليها أنصار حزب الله اسم المعادلة الذهبية (الجيش والشعب والمقاومة)، ولكن فعلياً كان القرار الميداني، وتحديداً في جنوب لبنان ومناطق نفوذ حزب الله، بيد الأخير.
لكن الحزب، الذي لم يستطع قراءة الأحداث بشكل صحيح منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وجد نفسه بعد أيلول (سبتمبر) 2024 في موقف جيد لناحية قراءة المستقبل، خصوصاً في الداخل اللبناني، وتحديداً في الشق المتعلق بالجيش والدور الذي سيلعبه بعد وقف الحرب.
سريعاً أُزيح الجيش من المعادلة الذهبية، وبدأ الاستهداف الرامي لتحقيق أمرين: ضرب صورة قائد الجيش الحالي، جوزف عون، ثم الانتقال إلى حملة تشكيك واسعة بقدرة الجيش اللبناني على حماية المناطق. عون، الذي تمكن من تحييد الجيش عن مسلسل انهيار المؤسسات القائم منذ 2019، أصبح يواجه سيلاً من التشكيك الذي يصل حد التخوين من أجل ضرب مشروع التمديد له لقطع الطريق أمامه لاحقاً للوصول إلى رئاسة الجمهورية.
أما في الشق المتعلق بالجيش نفسه، فالقراءة تدور حول التغييرات القادمة والإمساك بالأرض وبسط سلطته دون وجود شريك عسكري آخر، وما سينتج عن وقف الحرب والبنود التي ستعطي هذه المؤسسة العسكرية دوراً لم يسبق لها أن لعبته. ولم يحصل أن وجدت نفسها أمام ظروف تمكنها من لعب دورها بشكل كامل دون زيادة أو نقصان.
ويكفي التذكير بأن الصعوبة تكمن في اتخاذ القرار على المستوى السياسي لا في تنفيذه. ويُروى أنه وبعد التوقيع على اتفاق الطائف وبدء دوران عجلة الدولة، وقع إشكال في إحدى البلدات خلف وراءه قتلى وجرحى. دخل الجيش لإعادة الاستقرار والأمن، ووجد نفسه أمام مجموعة حزبية كان لها قرار الأمر والنهي إبان الحرب. جاءت للتنسيق معه وبحث أماكن انتشاره، وانتهى الأمر بأفراد المجموعة في مركز عسكري حيث اقتيدوا مخفورين.
حزب الله تمكن هذه المرة من قراءة المشهد، ولذلك بدأت الحملة على الجيش انطلاقاً مما أسموه فشلاً ذريعاً في مواجهة العدوان. فإلى جانب التشكيك في قدراته القتالية، وصل الأمر حد القول إنه غير قادر على تأمين مستلزمات النازحين، وحتى توزيع الطعام. وهذه الحملة مردها ترسيخ دور سلبي للجيش في أذهان بيئة الحزب لقطع الطريق أمامه مستقبلاً لتنفيذ بنود وقف إطلاق النار.
ودائماً ما عزف كثيرون، بينهم حتى رئيس الجمهورية السابق ميشال عون، على وتر عدم قدرة الجيش على حماية الحدود، تأكيداً منهم على ضرورة بقاء سلاح حزب الله. غير أن الحرب الأخيرة طرحت تساؤلات كبيرة: فما هو حلال على حزب الله لماذا يكون حراماً على الجيش؟
إقرأ أيضاً: إشارات خطيرة تُلتقط في بيروت
حتى أيلول (سبتمبر) 2024، كانت الرواية الداعمة لتفوق الحزب على الجيش في حماية الجنوب تتركز على أن حزب الله عصي على الاختراق والانكشاف أمام إسرائيل، والأخيرة لا تستطيع التفوق أمنياً عليه بحكم عدم وجود مراكز مرئية وعلنية له، بعكس الجيش الذي تنتشر ثكناته فوق الأرض بشكل يعطي تل أبيب أريحية كبيرة في الاستهداف.
كما أن النقطة الثانية تتناول المقارنة من بوابة التسليح، فالانطباع العام الذي روج إليه الحزب تحدث عن امتلاكه سلاحاً دقيقاً واستراتيجياً قادراً من خلاله على فرض معادلة توازن رعب مع إسرائيل، وصولاً إلى وضع معادلات الضاحية بتل أبيب، والمصانع بالمصانع، والدمار بالدمار.
الأمر الثالث كان في الإيحاء بعدم امتلاك الجيش أي قدرة قتالية، من بوابة أنه لم يُجرب في أي معارك منذ توقف الحرب الأهلية. ودوره ينحصر فقط في تأمين الأحياء والمدن ووضع حواجز تفتيش، أي بشكل مختصر يقوم بوظيفة قوى الأمن الداخلي.
إقرأ أيضاً: رهان لبناني فاشل على Fast Food أميركي سياسي
النقاط التي بُني عليها من أجل الاستهانة بالجيش والتقليل من فعاليته سقطت في الحرب الحالية. بدليل أن الحزب وقع ضحية خرق البايجر وأجهزة الاتصالات التي أسقطت ورقة القوة التي كان يلوح بها، وهي سرية العمل. فأصبحت معظم المواقع والأنفاق وغرف العمليات تحت الأرض كحال الثكنات المكشوفة.
أما بخصوص التسليح، فلم نرَ خلال هذه الحرب أي إضافة حتى مقارنة بعام 2006، حيث تمكن الحزب من تحقيق نتائج أفضل. الطيران الحربي ومعه الطائرات بدون طيار تسرح وتمرح حتى فوق العاصمة، والقدرة الصاروخية غير قادرة على تحقيق دمار كبير عندما تجتاز القبة الحديدية، كالذي نشاهده في مناطق لبنانية. وأيضاً السلاح الاستراتيجي لم ينجح في وضع معادلات تحمي المواطنين وتمنع النزوح الهائل الذي حصل.
إقرأ أيضاً: خطة حزب الله... أربعة أهداف للحرب ضد إسرائيل
والتشكيك بقدرة الجيش القتالية أيضاً ليس صحيحاً بالدرجة الأولى. فعلى الرغم من القبضة السياسية التي تتحكم بالجيش، نجح الأخير في مواجهة محاولات زعزعة الداخل في الضنية عام 2000، ومخيم البارد 2007، وعبرا في منطقة صيدا 2013. وأثبت أنه قادر عند وجود قرار سياسي على تحمل مسؤولياته. وبالتالي، يمكنه القتال بحال وجود خطر خارجي وتحقيق نتائج لا تقل في أدنى مستوياتها عن النتائج التي يحققها حزب الله حالياً.
الأعين ستكون مفتوحة على الجيش ودوره في الأشهر القادمة. فالتصادم معه، ولو على سيمفونية غضب الأهالي أو التهديد بفرط عقده، والتهويل عليه والتقليل من شأنه وتأثيره وقدرته، لا يخدم الحفاظ على الوطن وسيادته واستقلاله.