: آخر تحديث

عن الجمال الاسكندنافي، أتحدّث..

3
3
3

يقال: من يرى الجمال لا يشيخ أبداً. كانت ألوان الخريف هي أول ما خزنته ذاكرتي البصرية منذ أن وطأت قدماي الشوارع المرصوفة في المدينة القديمة في ستوكهولم. البرتقالي والأرجواني والزهري تختبئ بين ثناياها المقاهي الدافئة، وكأنها تقودني إليها. ذهبت مسرعة، طلبت قدحاً من الكابتشينو، وبرفقتي كتاب "حروب باسم الرب". لم يطل الأمر حتى بدأت بسماع اللغة العربية باللهجة السورية "الجزراوية"، لا يمكن أن أخطئ لهجة سكان الجزيرة السورية. هناك، التقيت جورج.

ينحدر جورج من مدينة القامشلي. كان قد غادر سوريا منذ عام 2015 وطلب اللجوء في السويد. دار بيننا حديث عابر. قرأ عنوان الكتاب الذي أحمله، فقال لي: عن ماذا يتحدث؟

أخبرته: عن الأحداث التي تعصف في منطقتنا العربية ولكن بشكل غير مباشر، عن الحروب الصليبية التي من وجهة نظر الكاتب "البروتستانتي" لا تتعلق بأي شكل من الأشكال بالدوافع الدينية بين الإسلام والمسيحية وتحرير "الأرض المقدسة"، بل كانت مجرد تصفية حسابات سياسية بين البيزنطيين وفرسان المعبد آنذاك لتحقيق مآرب شخصية. تماماً كما يحدث في غزة اليوم التي كشفت النقاب عن المطامع الصهيونية وخلافاتها مع اليهودية.

لم يكن الحديث مشوقاً بالنسبة إليه، كان يجاملني فقط. غيّرنا الموجة، فسألني: كيف هي الحياة في دبي؟ قلت له: جيدة إذا كان لديك عمل مفيد. فأخبرني أنه حاقد على الحكومة السويدية بسبب نظام الضرائب. فبالرغم من منطقية القوانين في هذا الشأن، إلا أنه وجد من المجحف أن يتم اقتطاع نصف أرباحه العام الماضي بعد أن بذل جهداً كبيراً لتحسين مستواه المعيشي. أخبرني أنه في نهاية المطاف لا فرق بين العادي والرابح، ففي المحصلة الضرائب التي تؤخذ من الرابح توازي راتب الشخص العادي، وهذا يقتل الطموح أو حتى الرغبة في العمل. لم أعقّب، فأنا لا أجيد الحديث بالشأن الاقتصادي.

سألته عن أبرز المعالم التي يتوجب زيارتها في السويد، فأرشدني إلى بعض المعلومات، حيث انتهى الحديث وبدأت رحلتي.

غمرني الطقس البديع بجماله، كنت ممنونة له دوماً. فأفضل طقس يمكن أن تجده هو تلك الشمس الساطعة مع نسيم بارد يلتهم وجهك. فما بالك بأرخبيل مثل ستوكهولم؟ لا عجب أن تسمى "مدينة البحار"، حيث يحيط بها بحر البلطيق وتصب فيها بحيرة الماليرين. أينما التفت ستجد نفسك محاطاً بالمياه.

استهللت زيارتي القصيرة بزيارة أربع معالم رئيسية في المدينة: مبنى البرلمان الذي يقام فيه توزيع جوائز نوبل. أخبرتنا ماريا، المرشدة السياحية، أنه في كل عام في كانون الأول (ديسمبر) تقام مأدبة على العلن يحضرها أكثر من ألف شخص، بما في ذلك الملك والملكة، لتكريم المرشحين بالجائزة.  

كانت فكرة تبني جائزة عالمية للسلام ناتجة في الحقيقة عن سببين: هناك السبب المعلن وهو أنّ ألفريد نوبل، الذي يتم وصمه بـ"تاجر الموت" بسبب اختراعاته، قرر التخلي عن ثروته قبل أن يموت ليتم استثمارها في صنع السلام وتحسين سمعته. ولكن أعتقد أن الموضوع أيضاً متعلق بتاريخ السويد، الذي كان مليئاً بالخسائر العسكرية، بما في ذلك اجتياح الدنمارك لها وانفصال النرويج عنها. لذلك تبنت السويد هذه الجائزة لتكتسب طابعاً في صنع السلام بأشكال مختلفة. وحتى لا يثير الموضوع حفيظة النرويج، تم اقتسام الجائزة بين جائزة نوبل للاختراعات العلمية والأدبية في ستوكهولم وبين جائزة نوبل للسلام في أوسلو.  

إقرأ أيضاً: اللحن يأخذك إلى هناك..على طريق اوراسيا

أما المعالم الأخرى التي زرتها فهي القصر الملكي، والمتحف الوطني، ومتحف سفينة فاسا الشهير.

الجميل في ستوكهولم أنها أخذتني في كل زاوية إلى ذكريات مختلفة. ففي بعض الزوايا وجدت نفسي وكأني أسير في شوارع لشبونة، وفي زوايا أخرى وجدت نفسي أسير في براغ. تاريخ الفايكنيغ، حيث ينحدر سكان الشمال، لم يكن بارزاً لي في المدينة بحد ذاتها، لكنه كان أوضح في محطتي الثانية، النرويج.

وصلت أوسلو في الظهيرة. شعرت حرفياً أنني أسير على حافة الكرة الأرضية. تبعد فقط مسافة 14 ساعة بالسيارة عن القطب الشمالي. ولعل الظواهر الطبيعية هي أبرز ما ميز جولتي في البلاد. يشعر المرء حقاً بأنه قريب من الشمس. والمفارقة أنّ القمر كان ساطعاً في وضح النهار، يمكن رؤيته بالعين المجردة حتى الساعة الثالثة ظهراً تقريباً.  

أحفاد الفايكنيغ يمكن استشعارهم بسهولة. لن أنسى مشرف الجولة البحرية التي ذهبت فيها لاستكشاف أوسلو، كان ذا شعر أشقر طويل وعينين خضراوين حادتين. هو التجسيد الحرفي للجمال الاسكندنافي.  

لم تكن النرويج بالنسبة لي رحلة ثقافية على ذات القدر من رحلتي إلى السويد، بل كانت رحلة طبيعة. أعتقد أنني قابلت الله في أحد وجوهه.  

إقرأ أيضاً: خواطر حلزونية

قطعت أولاً خمس ساعات متواصلة في القطار بين ستوكهولم وأوسلو، ثم سبع ساعات بين أوسلو وبيرغن، والتي -إن كان لها عنوان- سأسميها رحلة الفصول الأربعة. لمن لا يعرف بيرغن: هي بلدة صغيرة تعد عاصمة الغرب النرويجي، وتتميز بالعديد من "الفيوردات" التي لا يمكن تجاوزها في حال زيارة البلاد.  

ليس هذا فقط؛ تشتهر بيرغن بأضواء الشفق القطبي أو كما تسمى الأضواء الشمالية (Aurora/northern light). ضحكنا كثيراً، أنا ومسنتان أميركيتان التقيتهما في الفندق صباح عودتي من بيرغن إلى أوسلو. كنت أشرح لهما أنه لم يحالفني الحظ في رؤية الأضواء، وبررت أنني لم أعط نفسي فرصة إذ قضيت يومين فقط في البلدة. فأخبرتاني أنهما نجحتا في رؤية تلك الأضواء بعد المحاولة الثالثة عشرة!

مع ذلك لم أخرج من بيرغن خالية الوفاض. لقد اكتشفت اكتشافاً هاماً، وهو أنّ الفايكنيغ "النرويجيين" يشتركون في الثقافة مع البدو في بلادنا أو في الشرق عموماً بحكم أنهم من "الرحّل".


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف