ما الفارق بين تفاصيل الحكم الإيراني بعد الثورة الإسلامية وقبلها؟ بين طغيان الشاه والحكم الإسلامي من بعده؟ ما الفارق بين تفاصيل الحكم الأفغاني في عهد «المجاهدين» عن سابقه في عهد نجيب الله؟ وما الفارق بين ما وُصِفَ به حكمُ «فتح» وما وُصِفَ به حكمُ «حماس»؟
إن قلت لا شيء، كان الحكم بالحديد والنار وظل الحكم بالحديد والنار، أو لم يكن صوت يعلو فوق صوت السلطة، ولم يعل بعد الثورة فوق صوت السلطة صوت، فهذه إجابة كافية للغرض، لإثبات أن شيئاً لم يتغير، لكنها ليست منصفة.
الطغيان الدنيوي ينشئ عقداً اجتماعياً تحتكر فيه السلطةُ السياسةَ وتُضيِّقُ ممارستها على بقية قوى المجتمع. والنتيجة مفتوحة على الاحتمالات، ربما يكون على رأس السلطة المستبدة لي كوان يو فينقل الدولة نقلات عملاقة، وربما يكون على رأسها فيديل كاسترو أو صدام حسين أو عائلة الأسد فتخنقها وتعيدها قرونا إلى الوراء. ربما يأتي على رأسها حاكم محب للانفتاح الفكري، يفهم طريقة عمل الاقتصاد المعاصر، وربما يأتي آخر ضيق الأفق اكتسب ثقافته بالسمع ومعرفته بالاستنساب. الحظوظ مفتوحة.
لكن الطغيان الديني، في المقابل، لا يكتفي باحتكار الحياة العامة، ولا يقتصر نشاطه على قمع السعي إلى السلطة، ولا يُقيِّمُ أفعال نفسه بمدى ما يحقق من نجاح أو فشل للدولة، ولا حتى يحتفي بما راكم البشر حتى نصل إلى هنا. بل لديه عالم موازٍ لعالمنا. بدءاً من أهداف لا معيارية، مستحيلة القياس في حياتنا، مثل السعي إلى رضا الله عنه. وفي مسعاه إلى هذا الهدف يبدأ القمع من مستويات أدنى بكثير، تستدعي التدخل في الحياة الخاصة، ماذا تأكل وماذا تشرب وبمن تلتقي، وتستدعي خنق السعي الفردي إلى السعادة والمتعة الشخصية. الطغيان الديني يكلف نفسه بما لا يكلف الله نفسه، يكلفها بهداية الناس، شعاره فمن شاء فليؤمن، ومن لم يشأ أيضاً.
إن مت في مواجهة الطاغية الدنيوي اعتبرتك الجموع شهيداً حتى لو اعتبرك الطغاة خائناً، لكن إن مت في مواجهة الطاغية الديني استشهدوا بآيات فسروها على أنك خارج الملّة. ذلك أن الطغاة الدنيويين لا يتعدى نفوذهم دنياك، ومنتهى أملهم امتلاك مصيرك فيها، ولن يلتفتوا إليك ما دمت بعيداً عن طريقهم. غرورهم فج لكن ليس إلى درجة ادعاء التأثير على مصيرك في آخرتك. أما الطغاة الأخرويون فيلاحقونك في الآخرة بعد أن حصدوا الحسنات على حسابك في الدنيا. الخصلة من شعر رأسِك قد تكلفك حياتك أو كرامتك، جمالكِ قد يكون سبباً في تقييدك والحجر على اختياراتك، خفقان قلبك أو انطلاق هرمونات معينة في جسمك إشارة إنذار لهم لكي يهبوا سريعاً ويمنعوك من الزلل.
الطغيان الدنيوي يحوِّل قطاعاً من المواطنين إلى مخبرين ضد البقية، لكنَّهم على الأقل يمارسون الوشاية بخجل وتخفٍ، وفي حدود المهمة الموكلة. أما الطغيان الديني فيحولهم إلى مخبرين يتباهون بالحسبة على النصف الآخر. لا تكتفي عيونهم بملاحظة النشاط السياسي، بل تتابع السلوك الشخصي، ولا تكتفي بالمجال العام بل تقتحم البيوت. ينفذون الضبطية بأنفسهم، ويصنعون قانوناً موازياً، ويصدرون أحكاماً بمقتضاه.
في مواجهة الطغيان الدنيوي هناك أمل، وقضية، وعالم خارجي، وتوازنات سياسية. أما في مواجهة الطغيان الديني فكل معاني الحياة تتبدل. الأمل في تغيير الوضع قنوط من حكم الله وجحود به، والمطالبة بتغيير هنا أو هناك مؤامرة واعتراض على أوامر الله، والعالم الخارجي ليس عدواً لحاكم ولا دولة ولا نظام سياسي، بل عدو لله. الطغيان الديني يخلق عالماً لا يؤنبك فيه ضميرك على تسلطك على الآخرين، بل يؤنبك أنك لم تتسلط بما فيه الكفاية.
الطغيان الدنيوي كارثة للمواطن ذي الطموح السياسي. أما الطغيان الديني فكارثة للمواطن العادي الكافي غَيرَه شرَّه، ومنتهى أمله أن يعامله الآخرون بالمثل. ولأن مزايا الطغيان الديني لا تخفى على أصحاب الطغيان الدنيوي، صار طغيان الأسلمة حيلة يستخدمها الطغيان الديني لكي يرضي الجموع ويسكتها.
رأينا صدام حسين يقود بنفسه حملة إيمانية في التسعينات، ورأينا بشار الأسد يستشهد بالحكمة النبوية في سنيّن حكمه الأخيرة، وهلمَّ جرّاً. الطغيان يجعل المواطنين أكثر تقبلاً للطغيان إن استخدم الدين هنا أو هناك.
لكن الطغيان رهان خطر. لا أنقذ الطاغية الدنيوي، ولا أنتج بعد رحيله مجتمعاً حراً كما وعد. لقد دخلنا منذ عقود في دورة حلزونية لا نعلم متى تنكسر. إن كانت ستنكسر.