عبدالرحمن الحبيب
لو تذكرنا برامج في الثمانينيات والتسعينيات التي تعرض توقعات مستقبلية عن التطور العلمي والتكنولوجي وكنَّا مبهورين بها (كما نحن منبهرين الآن من التوقعات المستقبلية)، أو تذكرنا الأفلام والمسلسلات عن تلك التطورات؟ كثير منها لم يتحقق ولو حتى قريب منها، وثمة قليل منها تحقق، ولكن بطرق مختلفة عن تلك التوقعات التي بدت لنا طريفة وبعضها ساذجة وبعضها ممعنة في خيال جامح بعيد عما يحصل في وقتنا الحاضر الذي كثير منه لم يدر في حسبان توقعات جهابذة العلم والتكنولوجيا آنذاك.. لماذا؟
لأن المفاجآت التي تحصل دائماً، وتُغير في مسار التطور، لا تكون مدرجة في التوقعات السابقة.
عام 1995 توقع علماء في برنامج «عالم الغد» على بي بي سي أنه مع بداية ظهور الإنترنت، فإن هذه الشبكة ستجلب متاعب جمة في المستقبل، وهذا حدث فعلاً لكن ليس كما تم توقعه البرنامج بأن كبار رجال الأعمال والبنوك سيسيطرون على الإنترنت بحلول عام 2000، وينشئون «شبكة فائقة» يقيدون الوصول إليها، مما سيؤدي إلى عمليات اختراق وفيروسات وحتى أعمال شغب شعبية.
توقعات المستقبل على المدى القصير ممكنة إنما على المدى البعيد أو حتى المتوسط تفشل، في الغالب، لسبب بسيط جداً هو حتمية دخول عوامل خارجية لم تؤخذ في الحسبان تعمل على تغيير مسار، وقد يكون ذلك مفهوماً بالنسبة للتوقعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، كما يطرح الفيلسوف كارل بوبر باستبعاد نجاح التوقع نتيجة «عدم الاستقرار الاقتصادي الكلي ناجم حصرياً عن صدمات خارجية تضرب الاقتصاد بشكل عشوائي».
إنما بعضهم يظن أن توقعات العلماء في الكيمياء والفيزياء والتكنولوجيا وغيرها من العلوم لها مصداقية مميزة على أساس أنها تعتمد على وقائع علمية، لكن كافة الدلائل تُظهر العكس.
قبل 30 عاماً، توقع العالم الإنجليزي مونتي دون أحد مقدمي برنامج «عالم الغد» استعادة هائلة للغابات في بريطانيا بفضل الهندسة الوراثية والمرافق الزراعية المتقدمة، مما يؤدي إلى عودة الحيوانات بما في ذلك الدب البني..
وبالتفكير في الأمر، حالياً يقول مونتي إن الجزء الخاص به من البرنامج كان «خيالياً وساذجاً».
غراهام فريزر المراسل التكنولوجي عمل بحثاً حول برنامج «عالم الغد» عام 1995 الذي توقع شكل العالم بعد 30 عاماً، في عام 2025.. نعم، حدثت تطورات هائلة لكن ليس كما توقع كبار علماء العالم، ومنهم أبرز عالم فيزيائي وهو ستيفن هوكينغ، بل إن بعضها يبدو مضحكاً الآن بسبب سذاجته. هوكينغ كان حكيماً عندما أجاب لبرنامج «عالم الغد» قبل ثلاثة عقود بأن بعض هذه التغييرات مثيرة للغاية، وبعضها مثير للقلق، الشيء الوحيد الذي يمكننا التأكد منه هو أنها ستكون مختلفة تماماً، وربما ليست ما نتوقعه».
قد يبدو طريفاً أن العلماء تكهنوا بأن البشر سيقومون بالتعدين الفضائي حيث تقوم الشركات بحفر الكويكبات القريبة من الأرض بحثًا عن المعادن الثمينة، وأن ما ينتج من الحطام الفضائي سوف يصبح مشكلة كبيرة، ولن يكون آمنًا لرواد الفضاء، واقترحوا إنتاج هلام رغوي عملاق لإبطاء الحطام.. كل هذه التكهنات لم تحصل لا من قريب ولا بعيد. في حلقة أخرى من البرنامج، حول رؤية لمستقبل الخدمات المصرفية بالدفع عبر رقائق دقيقة داخل جسم الإنسان، حيث تظهر امرأة تذهب إلى البنك، وتشتكي من عدم وجود بشر، ثم تسحب 100 يورو، يعطيها البنك المال بعد مسح شريحة في ذراعها.
بعض التوقعات ممكنة منهجياً حين نعرف العوامل المؤثرة وتكون محدودة، مثلاً يمكنك توقع وزنك خلال الأشهر القادمة وفقاً لكمية طعامك ونشاطك الرياضي، كذلك يمكن تقدير العدد التقريبي للسكان مستقبلاً بناء على البيانات الإحصائية. إنما بعض التوقعات تتأثر بعوامل عديدة متشابكة مع مفاجآت مثل سوق المال والسلوك الاقتصادي بشكل عام، فلا يمكن الاعتماد عليها لأن الأحداث الاقتصادية قد تمتد لعدة سنوات، والعالم يتغير خلال إطار زمني مماثل وتقع فيه أحداث غير متوقعة، مما يبطل صلة الملاحظات السابقة بالحاضر.
في دراسة ضخمة عام 2005 أجراها فريق بحثي يرأسه بروفيسور علم النفس السياسي فيليب تيتلوك، صدرت بكتاب، راجع فيها 28 ألف توقع سياسي واقتصادي على مدى عشر سنوات، توقعها 284 خبيرا حكوميا وأكاديميا وإعلاميا، أظهرت النتائج أن أسوأ التوقعات كانت من الخبراء الذين يظهرون في الإعلام، وأن معدل توقعات الجميع كانت أكثر دقة قليلاً من الحظ، وأسوأ من نظام إحصائيات الكمبيوتر الذي يقوم باستقراء خام.
تقول الدراسة: إن كثيراً من التوقعات لم يقترب من الحدوث مثل انهيار: كندا، نيجيريا، الصين، إندونيسيا، جنوب إفريقيا.
العكس تماماً الصين تقدمت إلى الأمام بينما انهار الاتحاد السوفييتي دون أي توقع من خبير!
إذن، كيف نتعامل مع توقعات العلماء والخبراء؟ التوقع للمسائل العلمية والتكنولوجية يفيد في خلق تصورات وعصف ذهني للمواضيع الخاصة بحقل التوقع، بينما التوقع في مسائل العلوم الإنسانية فتختلف تماماً ولاسيما في الاقتصاد كما أشرنا، أو كما قال كبير الخبراء الاقتصاديين في الصندوق النقد الدولي، بيير أوليفييه غورينشاس عن التوقعات: «علينا أن نكون مستعدين نوعًا ما لتوقع ما هو غير متوقع..».