: آخر تحديث

دروس الزلزال والخرائط المعلقة

5
4
4

كانتِ الحربُ الأخيرةُ في الشرق الأوسط زلزالاً بمجرياتِها ونتائجها. زلزالٌ يضاف إلى زلازل سبقته مثل حرب 1967 وحرب 1973 وزيارة السادات إلى القدس وانتصار الثورة الإيرانية والغزو الأميركي للعراق. ومن عادةِ الزلازل أن تتركَ بصماتها على مصائرِ الشعوب والخرائط خصوصاً في ضوء ما يستنتجه أهلُ القرار في مسرح الزلزال وعلى أطرافه.

كنت ذاتَ يومٍ أراجع مع الدكتور أسامة الباز مديرِ مكتبِ الرئيس حسني مبارك صفحات من تجربته. وكانَ الموضوع الأولُ رحلةَ الرئيس أنور السادات إلى القدس وما تبعهَا. حكَى لي قصةَ زيارة السادات إلى دمشقَ قبل الرحلة الشهيرة والانزعاج الذي بدا على وجهِ الرئيس حافظِ الأسد حين أبلغَه الزائرُ بقراره.

نَقلَ عن السادات قولَه لاحقاً إنَّ على القائد أن يغامرَ أحياناً بقرار صعبٍ وغير شعبي إذا استنتجَ أنَّ القرار مصيريٌّ بالنسبة إلى مستقبل بلاده. وأضاف أنَّه يحترم قرارَ الأسدِ الذي أعطى الأولويةَ لسلامة نظامِه وصورته، لكنَّه أعرب عن خشيته من أن تضطرَ سوريا إلى سلوكِ طريق السَّلام في ظروفٍ أصعب وأن تحصلَ على ما هو أقلّ ممَّا كان يمكن أن تحصلَ عليه لو انضمَّ الأسدُ إلى السادات، والأمر نفسُه بالنسبة إلى ياسر عرفات.

قالَ الباز إنَّ فكرة زيارة القدس لم تأتِ من الأميركيين بل من السادات وهي كانت نتيجةَ قراءته لأوضاع مصرَ الاقتصاديةِ وحاجتها إلى السلام وقراءته لميزان القوى وللعلاقة الاستراتيجية بين أميركا وإسرائيل وتضاؤل ثقلِ الاتحاد السوفياتي. وزاد أنَّ السياسات المفتقرة إلى بعد النَّظر لا تساهم إلا في إطالة الآلام. على دولنا أن تلتحقَ بركب التَّقدم والتنمية وأن تبحثَ عن استعادة حقوقها بغير المدافع والقتلى والجرحى.

تذكرت كلامَ الباز وأنَا أتابعُ سلوكَ سوريا الحالية وقرارها الخروج من الشق العسكري على الأقل من هذا النزاع. تذكَّرته أيضاً وأنا أرَى المقاتلات الإسرائيلية تنهال بالموتِ على حاملي الطناجرِ الحالمين بإبعاد الجوعِ عن أطفالهم في غزة. واستوقفني سلوكُ الباز في نهايةِ الجلسة الثانية. شعرَ أنَّه ذهب بعيداً في امتداح السَّادات في ظلّ عهد مبارك. التفت إلى جدرانِ مكتبه، وقالَ يمكن أن نقولَ أكثر في عشاء في أحدِ مطاعم القاهرة وكأنَّه كانَ يلمّح إلى أنَّ للجدران آذاناً في بلداننا.

استوقفني تلميحُه إلى السَّياسات قصيرة النَّظر. السَّياسات التي تفضّل تركَ الأزمات في عهدة طبيبٍ اسمُه الوقت أو تفضل الانتصار الحالي، على رغم تكاليفه، على الحلولِ الدائمة وعائداتها. بنيامين نتنياهو أستاذ في هذه السياسات التي أدمتِ المنطقة. في لقائه الأول مع عرفات قالَ له بصراحة تقترب من الفظاظة إنَّه ليس مؤيداً لاتفاق أوسلو. فعلَ لاحقاً كلَّ ما في استطاعته لإسقاط الشريك الفلسطيني الشرعي متمسكاً بحلم شطبِ الشعب الفلسطيني والاستيلاء على ما تبقَّى من أرضه.

في المقابلِ يمكن الحديثُ عن الدَّور الذي لعبته العملياتُ الانتحارية التي أطلقتها «حماس» و«الجهاد الإسلامي». أدَّت العمليات الانتحارية إلى عسكرة الانتفاضة الفلسطينية وَوَقَعَ عرفات نفسُه في إغراء العسكرة لمنع «حماس» و«الجهاد» من استقطاب الشارع الفلسطيني.

في هذا الوقت كانَ المجتمع الإسرائيلي ينطلق في رحلة الانحياز إلى اليمين وراح برنامج نتنياهو يتقدَّم. حاول الرئيس محمود عباس إبقاءَ القرار الفلسطيني في عهدة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير لكنَّ انقلابَ التوازنات بعد الغزو الأميركي للعراق قلّصَ تماماً قدرتَه بعدما تقدَّمت إيران في برنامج الصواريخ والأنفاق ليصبحَ قرار الحرب مع إسرائيل في يدها. وهكذا صار مصير غزة والضفة والجولان ولبنانَ جزءاً من النزاع الإيراني - الإسرائيلي الذي دار بالواسطة لسنوات طويلة حتى انفجر أخيراً في مواجهة على مسرحه الفعلي أي على أراضي الطرفين.

في السنوات الأخيرة بدت جملةُ خرائطَ في المنطقة معلقةً على مصير النزاع بين إيران وإسرائيل وعلى مصير الخلاف المستحكم والطويل بين أميركا وإيران. خلال هذه الفترة قالت طهران مراراً لزائرين بينهم الرئيس العراقي الراحل جلال طالباني إنَّها مستعدة للتفاوض مع الأميركيين «من أفغانستان إلى لبنان» لكن التفاهمات لا تشمل «الغدة السرطانية» التي كانَ المرشد علي خامنئي يشدّد على وجوب استئصالها.

نحن الآنَ أمام مشهد رهيب فعلاً. الآلة العسكرية الإسرائيلية في ذروة توحّشها وتفوقِها. وإيران مجروحةٌ من رؤية تشييع جنرالاتها وعلمائها بعد سيطرة المقاتلات الإسرائيلية على أجوائها على مدار أيام. والضربة الأميركية لمنشآتها النووية رسالة بالغة القسوة والدلالات حتى ولو أعلنت طهران انتصارَها في الحرب.

واضح أنَّ أميركا هي حارسة وقف النار بين إيران وإسرائيل. وأنَّها الممر الإلزامي لإبرام اتفاق ينهي مذبحة غزة. وأنَّها الوحيدة القادرة على مساعدة لبنان إذا قرَّرت لجم التَّغول الإسرائيلي. والقادرة على إبقاء العراق خارج جاذبية النَّار وترسيخ إقامة سوريا في موقعها الجديد. لكن السؤال هو هل تستنتج إدارة ترمب أنَّه يجب إرغام إسرائيل على سلوك طريق السلام مع الفلسطينيين؟

مصير الخرائط معلَّقٌ أيضاً على ما يستنتجه نتنياهو من حروبه على الجبهات المتعددة. ومعلَّقٌ أيضاً على ما يستنتجه خامنئي بعد مشاهد التشييع والقصف الأميركي للمنشآت النووية. لا بدَّ من فترة هدوء لاستكشاف ما إذا كانت المراجعة ممكنة. هل يمكن أن تقوم في إسرائيل حكومة قادرة على اتخاذ قرار صعب من قماشة التوجّه نحو حل الدولتين؟ وهل يمكن أن تبرز في إيران رغبة في العودة إلى سياسات أقل خطورة ومجازفة؟ مصيرُ شعوب وخرائط معلَّق على ما يستنتجه ترمب ونتنياهو وخامنئي.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد