منذ اليوم الأول لعملي بالصحافة عملت في ما يسمى «القسم الخارجي»، أي الأخبار الدولية. وبعد عمر، تبين لي أنني كنت صاحب حظ. فالقسم المحلي في الجريدة محدود الأحداث والرجال، بينما العالم وأحداثه مدرسة يومية في التاريخ. وسوف نحلم، ذات يوم، بأن نقابل الرجال الذين نكتب عنهم كل يوم، وكأنهم جزء حقيقي من حياتنا. عندما أوفدتني «النهار» أول مرة عام 1973 إلى نيويورك؛ لتغطية دورة «الجمعية العامة»، كان ذلك حلماً مزدوجاً: المدينة والمنظمة. أما من خارج الحلم، فكان وقوع حرب 6 أكتوبر (تشرين الأول) هدية مهنية لا مثيل لها.
تحولت الأمم المتحدة ذلك الخريف إلى عرض يومي للأحداث والرجال. بدأ العرض بانتصار العبور، ثم تراجع سريعاً. وانتقل الانتصار إلى صراعات عربية كالعادة، وحلّقت في أجواء المؤسسة تهم الخيانة والصهينة.
تعرفت يومها عن قرب إلى أول أمين عام؛ النمساوي كورت فالدهايم، وبعده ربطتني مودة مع البيروفي خافيير دي كويار، ثم صداقة مع الدكتور بطرس بطرس غالي. ولم أتعرف إلى الغاني كوفي عنان؛ بسبب حساسية قديمة ضد العجرفة.
مع انتخاب بان كي مون، كنت قد قررت أنني أديت خدمتي مراسلاً. وفيما كنت أختم تلك المرحلة المهنية الممتعة، تبين لي أن كل أمين عام شعر بأن المنصب يؤهله لرئاسة بلاده، فخاض معركتها. جميعهم سقطوا في الانتخابات. كورت فالدهايم هو الذي أصبح رئيساً للنمسا رغم الحملة الإسرائيلية ضد ماضيه «النازي».
«العالَم صغير»... يقول المثل في جميع اللغات. عندما كان فالدهايم أميناً عاماً، بالكاد تسنت لي مصافحته. بعدما أصبح رئيساً للدولة، أقام له مأدبةَ غداء الأميرُ ماجد بن عبد العزيز، رحمه الله. وكان بين ضيوف الأمير مُحبِّركم المخلص. طيلة المأدبة كان فالدهايم يستذكر أيامه في الأمانة العامة، ويقول إن حرب لبنان كانت مؤامرة أكبر بكثير من الوطن الصغير.