: آخر تحديث

إيران: توازن المصلحة واستحقاقات المصالحة

5
5
4

لم تعد معرفة الرابح والخاسر في الحرب الإيرانية - الإسرائيلية هي الموضوع الأكثر أهمية. ثمة مواقف أميركية متباينة من نتائج قصف المفاعلات النووية؛ إذ في الوقت الذي أكد الرئيس دونالد ترمب أن الضربة العسكرية التي شنّتها قواته «دمّرت بالكامل» المواقع النووية الإيرانية الثلاثة التي استهدفتها، فإنه في الواقع، الحسم بنتائج هذه الحرب ما زال مبكراً. ترمب نفى صحّة تقارير إعلامية نقلت عن مصادر استخبارية أنّها لم تؤدِّ سوى لتأخير برنامج طهران النووي بضعة أشهر، وقال ترمب إن «شبكة (سي إن إن) للأخبار الكاذبة، بالتعاون مع صحيفة (نيويورك تايمز) الفاشلة، تضافرت جهودهما لتشويه سمعة إحدى أنجح الضربات العسكرية في التاريخ. المواقع النووية في إيران دُمّرت بالكامل». لكن المؤكد أنه ستتكشف معلومات كثيرة يوماً بعد يوم، قد تبين أن الخطب والمواقف المعلنة للأطراف كافة هي غير ما في الباطن.

يبقى الثابت أن الاعتداء الإسرائيلي والأميركي الذي تعرضت له إيران قد أنهك قدراتها العسكرية والاستخبارية، وأدى إلى فقدان الجيش و«الحرس الثوري» العديد من كبار قادتهم الأصليين، وحتى البدلاء.

الثابت أيضاً، أن براغماتية النظام والنخبة في إيران غلبت الآيديولوجيا. قرار القبول بوقف النار الذي دعا إليه ترمب أعطى الحكم في إيران مساحة ومتنفساً للمراجعة والتقييم، وتحصين ما تبقى مما لم تطله آثار الحرب المدمرة. رغم هذا، ما تزال إيران راهناً صامدة، لكنها معرضة ربما لأن تصبح بعد الحرب أكثر هشاشة تحت ظروف معينة قديمة ومستجدة.

من المسلّمات أيضاً، أن الأزمة ستتواصل حتى تحقق إسرائيل والولايات المتحدة أهدافهما العسكرية، والمتمثلة في تقويض القدرات الصاروخية والنووية لإيران ووقف هجماتها. وبينما تسعى إسرائيل إلى تحجيم «الخطر المباشر»، كما تصفه، تضع واشنطن نصب أعينها ترجمة المكاسب العسكرية إلى مكاسب استراتيجية أوسع، سواء على صعيد البرنامج النووي الإيراني، أو الوضع في غزة، أو الدفع قدماً بـ«اتفاقيات إبراهيم»، إضافة إلى قياس قدرات إيران الحقيقية ما بعد الحرب، وتقدير نياتها وخياراتها المستقبلية بدقة.

الثابت الرابع، أن الضربة الأميركية على المفاعلات قدمت مخرجاً مزدوجاً لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو؛ الأول هو وقف النار بعد الإعلان الأميركي عن تدمير المفاعلات، وهو الهدف الإسرائيلي الرئيس. والثاني استغلال ما أعطته هذه الحرب من شعبية لفتح الطريق أمام دعوة الإسرائيليين إلى انتخابات عامة مبكرة تسمح له بتشكيل حكومة مختلفة عن الحالية، أقرب إلى التوافق مع الأميركيين وبقية الحلفاء؛ ما يساعد على وقف حرب غزة، ويشكل إشارة إيجابية لحلفاء واشنطن في المنطقة للشروع في مسار للتسوية.

من المسلّم به أيضاً، أن وقف النار بين طهران وتل أبيب، إذا صمد، لن ينسحب على المربع الإسرائيلي -الفلسطيني - اللبناني - السوري الذي ما زال مشتعلاً ومرتبطاً بمدى تأثر القوى المحلية بما حصل في إيران وهضمه، والتعايش مع تراجع المشروع الإيراني الإقليمي العسكري، والاحتفاظ بالدور الآيديولوجي الديني.

هل تؤكد هذه الثوابت نهاية الحرب بعد أن فقدت إيران دفعة واحدة حلفاءها ووكلاءها وقدراتها النووية بحسب الأميركيين والإسرائيليين؟ وما هو المقابل الذي يجعلها تتحمل هذه الخسائر بمعزل عن قضية استهداف النظام، وهي قضية غير محسومة ولا مرجحة وغير مطلوبة لا أميركياً ولا دولياً باستثناء لدى عدد من المتشددين؟

إذا تمكّنت القيادة الإيرانية من اعتماد المرونة البطولية بحسب المرشد، وموازنة تكلفة السياسات المعتمدة منذ ثورة 1979، ومقارنة ذلك بما قد تحققه إذا انفتحت على العالم ورُفعت العقوبات عنها، فستكون أمام خيار استراتيجي حاسم. لكن الحسم لن يكون سريعاً، ويتوقف على تطورات الداخل وتوازن القوى في النظام، ومدى قدرة القيادة على التوفيق بين المصلحة الوطنية والمصالحة. وإذا تحقق هذا التوازن، فقد تتجه التسوية نحو مصالحة حقيقية، لا تفاهمات مؤقتة أو سلام مفروض، وهي مسؤولية أميركية بالدرجة الأولى.

الخوف من المشاريع التوسعية الإسرائيلية لا يؤدي إلا إلى الدوران في حلقة مفرغة تعيد المنطقة إلى الحروب. فرغم تفوقها العسكري والتكنولوجي، تفتقر إسرائيل إلى مقومات مشروع إقليمي حقيقي، سواء من حيث الديمغرافيا أو اللغة أو الدين أو الثقافة. وقد أثبتت الحرب الأخيرة أن الحسم الإسرائيلي مستحيل من دون دعم أميركي مباشر. إلى هذا، فالهيمنة على المنطقة بالقوة وحدها غير قابلة للاستمرار في ظل غياب مشروع سياسي واضح لدى كل من إسرائيل والولايات المتحدة. يمكن لدول الإقليم، إذا تماسكت وسعت إلى مشروع مصالحة شامل، أن تملأ الفراغ الاستراتيجي الذي قد تخلفه الحرب الإسرائيلية - الإيرانية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد