في خطوة ذات أبعاد استراتيجية، اختار رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا، الأخ أحمد الشرع، المملكة العربية السعودية كأول محطة خارجية له منذ توليه مهام رئاسة الجمهورية في المرحلة الإنتقالية.
هذا القرار يحمل رسائل واضحة حول مستقبل سوريا، والعلاقات العربية – العربية، والتوازنات الإقليمية الجديدة التي تتشكل في مرحلة ما بعد الثورة السورية والحرب الداخلية التي اندلعت بين الطغمة الحاكمة والثورة السلمية التي تسلحت. فالسعودية ليست مجرد وجهة دبلوماسية تقليدية، بل هي مفتاح أساسي لإعادة تأهيل سوريا سياسيًا واقتصاديًا، ما يجعل هذه الزيارة خطوة مفصلية في مستقبل العلاقات الثنائية، وربما في صياغة دور سوريا المستقبلي في المنطقة.
السعودية.. مركز الثقل العربي وشريك إعادة التأهيل
أن تكون الرياض أول عاصمة يزورها رئيس سوريا في المرحلة الانتقالية يؤكد أن المملكة باتت القوة العربية الأكثر تأثيرًا في صياغة التوجهات الإقليمية. فمنذ عقود، لعبت السعودية دورًا رئيسيًا في التوازنات الجيوسياسية للمنطقة، سواء من خلال دعم الاستقرار في دول الخليج والشام، أو من خلال مواقفها الواضحة تجاه الأزمات العربية الكبرى.
وفي ظل التطورات المتسارعة، يبدو أن القيادة السورية الجديدة تدرك أن الرياض هي الشريك العربي الأهم الذي يمكن أن يساعدها على الخروج إلى العالم ولعب دور سياسي وتحقيق الأهداف السياسية والاقتصادية التي أعلنها الشرع في أول خطاب له إلى السوريين بعد توليه منصبه. فالسعودية ليست مجرد دولة داعمة، بل هي بوابة العبور إلى المشهد العربي والدولي، بفضل تحالفاتها الاستراتيجية وقدرتها على التأثير في قرارات القوى الكبرى.
حفاوة الاستقبال.. رسالة دعم واضحة
منذ اللحظة الأولى للإعلان عن الزيارة، كان واضحًا أن السعودية ستستقبل رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا بحفاوة بالغة. فإرسال طائرة سعودية خاصة لنقله من مطار دمشق إلى مطار الملك خالد بالرياض لم يكن مجرد ترتيبات لوجستية، بل هو رسالة بحد ذاتها.
تاريخيًا، كانت مثل هذه الإشارات الدبلوماسية تعكس مدى جدية العلاقة بين الدول، ففي حالات مماثلة، كانت المملكة ترسل طائرات خاصة لنقل زعماء دول تربطها بها علاقات وثيقة، مثلما حدث مع بعض القادة العرب في محطات مفصلية. وهذا الاستقبال يُترجم بوضوح إلى دعم سياسي مباشر للقيادة السورية الجديدة، وإشارة إلى أن الرياض ترى في هذه المرحلة فرصة لإعادة ضبط المشهد السوري وفق مقاربة أكثر استقرارًا.
ما الذي يبحث عنه الشرع في السعودية؟
القيادة السورية الجديدة تواجه تحديات هائلة، بدءا من ضبط الأمن وبسط السيطرة على كامل التراب السوري المعترف به دوليا مرورًا بتحقيق العدالة الإنتقالية وتحقيق المصالحة الداخلية، وانتهاءً بإعادة بناء علاقات سوريا الخارجية. ومن هنا، يمكن تلخيص أهم الملفات التي يبحث عنها الشرع في زيارته الأولى إلى الرياض في النقاط التالية:
الحصول على دعم سياسي عربي ودولي: في ظل العقوبات الغربية، تحتاج سوريا إلى غطاء سياسي يمكن أن يساعدها على إعادة الاندماج في المجتمع الدولي. والسعودية تمتلك من النفوذ ما يسمح لها بالتأثير في هذا الملف.
جذب الاستثمارات والمساعدات الاقتصادية: إعادة إعمار سوريا تتطلب مئات المليارات من الدولارات، والمملكة تمتلك الموارد والخبرات اللازمة لدعم هذه العملية وتمتلك النفوذ لدى مجلس التعاون لدول الخليج العربية للمساهمة في إعادة الأعمار وأن تكون السعودية مفتاح الثقة الدولية لضمان الاستثمار الدولي في إعادة الإعمار والاستقرار.
تعزيز التعاون الأمني ومكافحة الإرهاب: الملف الأمني يظل أولوية، خاصة أن استقرار سوريا ينعكس مباشرة على استقرار المنطقة فهناك ملفات حاسمة تهم السعودية ودول المنطقة والعالم في هذا الموضوع، فالتشابك السوري السعودي سيمنع أن تكون سوريا بؤرة لتصدير أي شكل من أشكال التدخل في الدول العربية على أساس إسلامي جهادي، كذلك سيمنع سوريا من أن تكون بؤرة سلفية جهادية أو غير جهادية فالسعودية خاضت حربها الداخلية والإقليمية لتحجيم السلفية في حدودها الإعتقادية الفردية السلمية ولن تقدم الدعم لأي توجه إقليمي أو دولي ينحو في هذا الإتجاه.
دور السعودية في رفع العقوبات عن سوريا
لا يمكن الحديث عن تأهيل سوريا دون التطرق إلى العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، والتي تمثل العائق الأكبر في الأمد المنظور أمام إعادة الإعمار. هنا تبرز السعودية كوسيط محتمل بين القيادة السورية الجديدة والغرب، خاصة في ظل علاقاتها الوثيقة مع واشنطن مع قدوم إدارة ترامب إلى البيت الأبيض الذي تربطه علاقات وثيقة مع القيادة السعودية وعلاقات شخصية لولي العهد السعودي رئيس مجلس الوزراء محمد بن سلمان مع ترامب وأركان إدارته وعائلته.
ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، يتمتع بعلاقات قوية مع دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة، وهو ما يمكن أن يساعد في التمهيد لرفع تدريجي للعقوبات، مقابل التزام دمشق بتنفيذ التعهدات السياسية والاقتصادية التي قطعتها على نفسها.
كما أن السعودية تمتلك القدرة على إقناع بعض القوى الأوروبية بإعادة النظر في سياساتها تجاه سوريا، من خلال تقديم رؤية متكاملة حول أهمية إعادة تأهيل الدولة السورية الوايدة كجزء من استقرار المنطقة.
المكاسب الاستراتيجية للسعودية من دعم استقرار سوريا
دعم المملكة لاستقرار سوريا ليس مجرد موقف دبلوماسي أو عاطفي تجاه السوريين رغم وجود ذلك عند عموم الشعب السعودي وليس قيادته فقط، بل هو استثمار استراتيجي يمكن أن يحقق لها عدة مكاسب، منها:
تحجيم النفوذ الإيراني: فإعادة سوريا إلى المحيط العربي يقلل من اعتمادها على طهران، ما يسهم في إعادة التوازن للمنطقة.
تعزيز الأمن الإقليمي: استقرار سوريا يعني تقليل مخاطر الجماعات الإسلامية المسلحة، وكذلك الجماعات غير الإسلامية التي تشكل تهديد لدول الجوار كتركيا والتي طالما كانت مصدر قلق للدول المجاورة بل للعالم.
فتح فرص استثمارية جديدة: مشاريع إعادة الإعمار يمكن أن تكون مدخلًا لمشاركة الشركات السعودية في تطوير البنية التحتية السورية ونافذة استثمارية عالية المردود لها.
إعادة إعمار سوريا.. أي دور للشركات السعودية؟
تمثل عملية إعادة إعمار سوريا فرصة اقتصادية كبرى، ويمكن للسعودية أن تلعب دورًا محوريًا في هذا الملف، خاصة في القطاعات التالية:
البنية التحتية والمقاولات: الشركات السعودية تمتلك خبرات واسعة في مشاريع البناء الكبرى، ويمكنها أن تكون شريكًا أساسيًا في إعادة تأهيل المدن السورية المدمرة.
الطاقة والكهرباء: هناك حاجة ملحّة لاستثمارات في قطاع الطاقة، والسعودية لديها القدرة على توفير حلول مستدامة من خلال مشاريع الطاقة المتجددة التي تعكس توجه رؤية 2030 رغم أن السعودية أهم مورد لمصادر الطاقة التقليدية وهو النفط.
الخدمات الرقمية والحكومة الإلكترونية: تجربة السعودية في التحول الرقمي السريعة و المدهشة على مستوى العالم يمكن أن تكون نموذجًا يحتذى به في سوريا، ما يفتح المجال أمام شركات التكنولوجيا السعودية للدخول في هذا القطاع.
السعودية وتركيا.. بين المنافسة والتعاون
في ظل الحراك الإقليمي تجاه سوريا، تبقى العلاقة بين السعودية وتركيا في هذا الملف ذات أهمية خاصة. فتركيا، التي استضافت ملايين اللاجئين السوريين ولعبت دورًا محوريًا في الثورة السورية منذ بداياتها وتشكيل الهياكل السياسية البديلة، قد تجد نفسها في منافسة مع السعودية على النفوذ في مرحلة إعادة الإعمار.
لكن في الوقت ذاته، فإن المصالح المشتركة بين البلدين قد تدفعهما إلى التنسيق بدلًا من التنافس، خاصة أن كلاهما يسعى إلى تحقيق الاستقرار في سوريا، وإن كان من زوايا مختلفة. تركيا تعاني من أزمة اقتصادية وغير قادرة على ضخ استثمارات مباشرة بعكس السعودية، کذلك تجربة تركيا في مواجهة السعودية والنظام العربي الذي تقوده باءت بالفشل بعد فشل حلم الربيع العربي الذي استولت عليه جماعة الإخوان المسلمين في أقطار شتى جعل تركيا أكثر عقلانية وجعل تيار الدولة التركية يتغلب على تيار حزب العدالة والتنمية الإخواني ويرسي مصالح الدولة التركية بمواجهة مصالح الجماعة الإسلامية الموالية لها.
نحو شرق أوسط جديد
زيارة رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا إلى السعودية ليست مجرد حدث دبلوماسي، بل هي مؤشر على بداية مرحلة جديدة في الشرق الأوسط. فإذا نجحت السعودية في قيادة جهود إعادة تأهيل سوريا، فإنها لن تكتسب نفوذًا سياسيًا فحسب، بل ستؤسس لمرحلة من الاستقرار الإقليمي، الذي يخدم مصالحها الوطنية أولا ومصالح الدول العربية بشكل عام ودول العالم.
التحديات لا تزال قائمة، لكن ما يبدو واضحًا هو أن الرياض باتت تمتلك مفاتيح الحلول في العديد من الملفات الإقليمية، وأن دعمها لسوريا قد يكون نقطة تحول في إعادة صياغة المشهد العربي. الأيام المقبلة ستكشف كيف ستُترجم هذه الزيارة إلى خطوات عملية، وما إذا كانت سوريا ستتمكن أخيرًا من الخروج من دوامة الحرب والدمار وعدم الإستقرار إلى مرحلة جديدة من البناء والاستقرار.