لقد انتظر السوريون طويلاً لحظة الخلاص من عقودٍ من القمع والاستبداد، وها هي مرحلةٌ جديدةٌ تفتح أبوابها أمامهم بعد سقوط نظام الأسد المخلوع الذي حكمهم بالحديد والنار! إنها لحظة فارقة في تاريخ البلاد، لحظة تتشابك فيها الأحلام مع المخاوف، والطموحات مع التحديات، والآمال مع العقبات.
في خطابه الأول، أعلن الشرع عن مسارٍ جديد، يرتكز على تشكيل حكومة جامعة، وإصدار إعلان دستوري، والدعوة إلى مؤتمر للحوار الوطني، بالإضافة إلى حلّ المؤسسات العسكرية والأمنية السابقة وإعادة هيكلتها. هذه الخطوات تمثل نقطة تحول في مستقبل سوريا، ولكن يبقى السؤال الكبير: هل يمكن لهذه القرارات أن تحقق تطلعات السوريين في وطنٍ مستقرٍ وآمن، أم أنها ستفتح الباب أمام تحديات وصراعات جديدة؟
منذ إعلانكم رئيساً انتقالياً، أحدثت قراراتكم صدىً واسعاً داخل سوريا وخارجها. حلّ مجلس الشعب، وإلغاء العمل بالدستور القديم، وتفكيك الفصائل المسلحة، وإعادة تشكيل الجيش. كلها قرارات جذرية لا شك في أهميتها، لكن كيف يمكن تنفيذها دون أن تؤدي إلى فراغ أمني أو اضطرابات داخلية؟
سوريا اليوم ليست مجرد دولة خارجة من حرب، بل هي ساحة نفوذ متشابكة تتداخل فيها مصالح محلية وإقليمية ودولية. القوى العسكرية المتعددة على الأرض، بدءاً من الفصائل المعارضة إلى القوات الكردية وميليشيات أخرى، تمتلك مشاريعها الخاصة ورؤاها المختلفة حول مستقبل سوريا. فكيف سيتم بناء المؤسسات الجديدة بطريقة تضمن الاستقرار، خاصةً أن بعض القوى، مثل "قسد"، تطالب بتمثيلها العسكري في الجيش الجديد؟ وهل ستتمكن الحكومة الانتقالية من استيعاب الجميع في عملية سياسية متوازنة دون إعادة إنتاج الصراع المسلح بشكلٍ جديد؟
إلى جانب التحديات السياسية والعسكرية، يواجه السوريون أزمة اقتصادية خانقة وبنية تحتية مدمّرة نتيجة أكثر من 14 عاماً من الحرب. انهيار العملة، تفشي البطالة، غياب الخدمات الأساسية، ودمار المدن كلها عقبات هائلة أمام أي محاولة لإعادة بناء البلاد. السوريون الذين عانوا من الجوع والفقر والتشريد يتطلعون اليوم إلى خطواتٍ ملموسة تعيد إليهم الحياة الكريمة، ولكن هل تمتلك الإدارة الجديدة الموارد والدعم الدولي الكافي لإعادة الإعمار؟
الموقف الدولي لا يزال متحفظاً. بعض الدول، مثل قطر، أظهرت اهتمامها من خلال تهنئة الحكومة الجديدة، لكن القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تترقب خطواتكم قبل اتخاذ قراراتها بشأن رفع العقوبات ودعم إعادة الإعمار. فهل سيتمكن الاقتصاد السوري من النهوض دون مساعدة خارجية؟ وهل ستتمكنون من تحقيق التوازن بين الاعتماد على الداخل والانفتاح على الدعم الدولي؟
سوريا لم تكن يوماً دولة معزولة عن محيطها الإقليمي والدولي، بل كانت ساحة صراع بين قوى متنافسة. روسيا، إيران، تركيا، ودول الخليج، كلها لديها مصالحها وأجنداتها في سوريا، فكيف ستتعامل الحكومة الجديدة مع هذه التوازنات؟
إقرأ أيضاً: أبعاد زيارة أمير قطر إلى سوريا
زيارة أمير قطر إلى دمشق وتهنئته لكم كانت إشارة إيجابية، لكنها لا تعني بالضرورة أن سوريا ستجد دعمًا دولياً كافياً لإعادة البناء بسهولة. في المقابل، القوى الدولية الكبرى، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لن تتخذ قرارات حاسمة بشأن العقوبات أو الدعم الاقتصادي قبل أن تتيقن من طبيعة الحكومة الجديدة ومدى التزامها بالديمقراطية والعدالة الانتقالية.
التحدي الأكبر هنا هو كيفية إقناع المجتمع الدولي بأن سوريا تتجه نحو دولة ديمقراطية شاملة، لا مجرد إعادة إنتاج لنظام جديد يحمل سمات الماضي. فهل ستتمكنون من تقديم مشروع وطني جامع يتجاوز الحسابات الفئوية والمصالح.
اليوم، ومع بدء مرحلةٍ جديدة، يبقى المواطن السوري هو المقياس الحقيقي لنجاح أي تغيير. السوريون يتساءلون:
هل سيعود النازحون إلى بيوتهم دون خوف؟ هل ستنتهي سنوات الخوف والملاحقة الأمنية؟ هل سيتمتع المواطن السوري بحريته السياسية والاقتصادية دون قيود؟
إقرأ أيضاً: "التكويع".. وجدلية القمع والتغيير
هذه ليست مجرد تساؤلات، بل هي امتحان حقيقي لأي سلطة جديدة في سوريا. لم يعد السوريون يبحثون عن خطابات وشعارات، بل عن تغيير ملموس يمس حياتهم اليومية ويعيد لهم كرامتهم وحقوقهم.
إنَّ ما تواجهونه ليس مجرد تحدياتٍ إدارية أو سياسية، بل هو اختبار لإرادة التغيير. السوريون يطمحون إلى وطنٍ يحتضن الجميع، لا إلى سلطةٍ تعيد إنتاج نفسها بوجوهٍ جديدة. فما هي خطوتكم القادمة؟ وهل ستكونون القادة الذين يعيدون لسوريا مكانتها، وطناً لكل السوريين، أم أن البلاد ستظل عالقةً بين الأمل والخيبة؟