: آخر تحديث

جدلية النصر والهزيمة في غزة

2
3
1

كعادة كل الصراعات والحروب التي اندلعت في منطقتنا، بمجرد أن تتوقف أصوات الرصاص تندلع حرب كلامية لا تقل ضجيجاً حول المنتصر والمهزوم في الصراع، حيث يبدو من البديهي أن يروج كل طرف لوجهة نظره ورؤيته للأمور. فبمجرد الاعلان عن التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة بين دولة إسرائيل وحركة حماس الإرهابية ، ضجت السوشيال ميديا وقنوات التلفاز بالتحليلات والآراء حول "هزيمة إسرائيل" و"انتصار حماس" في حرب غزة، وهي استنتاجات ليست مفاجئة بحكم اختلاف المعايير وقواعد الاشتباك بين الدول والتنظيمات، ففي كل المواجهات التي خاضها حزب الله اللبناني مع دولة إسرائيل يدعى الحزب انتصاره وهزيمة إسرائيل رغم كل ما يعرفه وشاهده الجميع حول حجم الخسائر البشرية والمادية الكبيرة للحزب بما في ذلك الجولة الأخيرة التي قتل فيها أغلب زعمائه وقادته!

المعيار الأساسي المتعارف عليه بين الميلشيات في حروبها جميعها هو أن النصر يتحقق ببقاء التنظيم أو قادته على قيد الحياة والصمود في مواجهة الضربات العسكرية مهما كانت الكلفة البشرية والمادية للصراع العسكري، وهذا أمر يتحقق دائماً لأن الرهان على استئصال أي تنظيم بشكل جذري يبدو خياراً صعباً للغاية، حتى أن  "داعش" الذي انهارت "دولته" المزعومة في العراق وسوريا لم يزعم أي طرف من أطراف التحالف الدولي أنه تم استئصال التنظيم من المناطق التي كان متمركزاً فيها، بل بقيت قوات أجنبية في تلك المناطق حتى الآن تحسباً لمحاولة عناصره لملمة صفوفهم مجدداً.

ادعاء النصر العسكري رغم مشاهد الدمار والخراب تشابهت لدى حماس الإرهابية وأتباعها وإيران وهي ادعاءات تكررت سابقاً في حروب حزب الله اللبناني مع دولة إسرائيل، وليس لدي مشكلة شخصية ـ كمراقب ـ مع فكرة ادعاء النصر، فمثل هذه التكتيكات تستهدف رفع الرفع المعنوية للعناصر الموالية وتندرج ضمن خطط الحرب النفسية لكل طرف، ولكن الإشكالية فيها أن تمثل دفناً للرؤوس في الرمال واخفاء للحقائق واستيعاب الدروس ومراجعة الأخطاء.

صحيح أن دولة إسرائيل لم تحقق هدفها الخاص بهزيمة حماس واستئصالها من القطاع نهائياً، ولكنها بالمقابل حققت اختراقات استراتيجية مهمة للغاية على صعيد انهاء التهديدات الاقليمية التي كانت تحاصرها من وكلاء إيران وفي مقدمتهم حزب الله اللبناني و جماعة الحوثي الإرهابية، حيث فككت ما يعرف بمحور المقاومة ووضعت قواعد اشتباك جديدة مع إيران، ونجحت في تحجيم نفوذها الاقليمي تماماً بعد القضاء على تهديدات بعض الأذرع فيما بات الآخرون مثل جماعة الحوثي في بؤرة الاستهداف الدولي وليس الإسرائيلي فقط، وهذه من وجهة النظر الاستراتيجية أمور لا تقدر بثمن وكانت أبعد مايكون عن أحلام مخططي السياسات الاستراتيجية قبل عامين على سبيل المثال.

في المقابل، هناك من يعتقد أن حركة حماس الإرهابية "نجحت" عبر الهجوم الدموي والإرهابي في السابع من أكتوبر في وقف مسيرة تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية وإحياء القضية الفلسطينية، وأن الحركة الإرهابية كبدت دولة إسرائيل خسائر بشرية واقتصادية واستراتيجية فادحة من المنظور الاسرائيلي، ولكن السؤال الموضوعي هو: من قال بأن القضية الفلسطينية كانت على وشك الموت وهي القضية المركزية للدول العربية، ومن قال بأن هناك ما يوازي كل هذه الدماء الفلسطينية التي سالت والأرواح البريئة التي دفعها الشعب الفلسطيني في القطاع والتي تقدرها بعض التقارير الدولية بحوالي 7% من سكان القطاع، وكل  هذا الدمار الهائل في البنى التحتية والمرافق والمباني بالقطاع؟!

بعيداً عن ادعاءات انتصار حماس الإرهابية وبجانب الأعداد  الكبيرة من الضحايا والمصابين والمفقودين تحت الانقاض، فإن ما يجب الالتفاف إليه هو محتوى التقارير الدولية، حيث قال أخيم شتاينر، رئيس برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إن غزة فقدت "عقوداً" من التنمية. وأضاف "نحن نتعامل مع 40 مليون طن من الأنقاض وحدها التي يجب إزالتها، هذه الأنقاض خطيرة للغاية، وهي سامة، وتحتوي على ذخائر غير منفجرة"، وأن هناك حاجة إلى جهد كبير لإزالة الانقاض حتى يتمكن الناس من العودة إلى بيوتهم. وهنا لا يجب القفز على الإشلاء وجثث الضحايا وانقاض بيوت غزة وتجاهل ذلك كله والاحتفاء بالتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، ولسنا هنا بصدد إفساد فرحة أحد حتى لايخرج علينا البعض ليقول بذلك أو يتهمنا بالعمالة لإسرائيل أو الانهزامية أو دعاة التطبيع وغير من قائمة تطول من الادعاءات التي تلاحق كل من يتفوه بكلمة حق تخالف حفلات الكلام التي يدعى إليها الملايين في عالمنا العربي كل يوم، كما أننا بداية نحاول التفكير بموضوعية وعقلانية ولا نميل لرأي دون آخر في محصلة هذه الحرب التي طالت خسائرها الجميع في الشرق الأوسط من دون استثناء ولم تقتصر على الفلسطينيين والإسرائيليين، فلا أحد ينكر أنه منذ اندلاع الحرب عقب الهجوم الدموي لحماس الإرهابية في السابع من أكتوبر 2023، ودول المنطقة بأكملها تعاني آثار التوترات وتنام وتصحو على أخبار القتل والدمار، وهذه ليست بيئة صالحة للتنمية والعمل والاستثمار، الذي تنشده وتطمح إليه الشعوب، لذا ليس لأحد أن ينكر علينا حق المطالبة بإعمال العقل وحسن التدبر والأهم من ذلك كله ضرورة انهاء حقبة مغامرات الميلشيات والتنظيمات الإرهابية التي تدفع ثمنها الشعوب غالياً، وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني نفسه.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف