شكل مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي فصلاً حرجاً على مسرح الحياة السياسية في إيران، ووضع النظام بأكمله في اختبار غاية في التعقيد، خاصة أن رئيسي لم يكن مجرد رئيس جمهورية معتاداً، بل كان بداية الإجابة على السؤال المفصلي في إيران حالياً: من سيتولى منصب مرشد الثورة الإيرانية بعد وفاة المرشد الحالي علي خامنئي، الذي تجاوز 84 عاماً ويعاني حالة صحية غير مستقرة منذ عقد من الزمان على الأقل؟ فرئيسي كان الأقرب لشغل منصب المرشد، والمرشح بقوة له، سواء من قبل الحرس الثوري أو الحوزة الدينية. وقد تجاوز الرجل مكانته كرئيس جمهورية (مجرد رئيس للسلطة التنفيذية في إيران كما ينص الدستور) وأصبح قاب قوسين أو أدنى من كرسي الإرشاد، مما شكل خطراً حقيقياً على العديد من الطامعين بمنصب الولي الفقيه، قمة الهرم الديني والسياسي في النظام الثيوقراطي الإيراني، فجاء مقتله في حادث سقوط الطائرة ليزيح عبئاً ثقيلاً عن أكتاف المنافسين، لكنه وضع النظام في إشكالية سياسية جديدة، وهي إعادة تفعيل خاصية "الرئيس الموظف" أو المنفذ لسياسة رأس الدولة ومراكز السلطة المقربة، دون كاريزما أو طموح زائد عن الحد المباح.
فخ الإصلاحيين لضمان المشاركة
رغم ما نشهده الآن من صراعات سياسية بين جناحين متناقضين، سواء جناح الاعتدال (الإصلاح) أو جناح التشدد، إلا أن خلفية ذلك الصراع قد تم هندستها بدقة بعد مقتل رئيسي مباشرة. فتبعاً للدستور الإيراني، فإنَّ "مجلس صيانة الدستور" هو المجلس الوحيد في الدولة المنوط به الموافقة على ترشيح من يتقدم لأي استحقاق انتخابي من عدمه. وبالتالي، السماح بوجود عنصر معتدل أو له ميول للتيار الإصلاحي مثل مسعود بزشكيان لم يكن خارجاً عن سيطرة النظام كما يعتقد البعض، بل على العكس تماماً. فالنظام الإيراني قرر هندسة الانتخابات بطريقة تبدو مختلفة إلى حد ما، فقد استخدم ممثل التيار المعتدل بزشكيان كفخ اجتماعي، ليضمن مشاركة الشباب والأقليات (42 بالمئة من المجتمع) والنساء (53 بالمئة من الكتلة التصويتية)، خاصة اللواتي يعانين مؤخراً من عنف الدولة ضدهن بسبب قانون فرض الحجاب الإجباري الذي أشعل المجتمع ضد الدولة بداية من عهد رئيسي وأزمة مقتل مهسا أميني.
مسعود بزشكيان ليس إصلاحياً كامل الصلاحية، خاصة مع ظهور جيل جديد من شباب الإصلاحيين أكثر تمرداً وأكثر رغبة في تغيير وجه النظام بالكامل، وليس فقط الحصول على حرية محدودة بحدود آيات الله، والذين هاجموا على موقع إكس مجرد مشاركة بزشكيان في العملية الانتخابية لما يمنحه ذلك من شرعية لنظام قمعي أو عجوز من وجهة نظرهم. فـبزشكيان أميل للأصولية ولكن باعتدال، كما تم وصفه خلال الحملة الانتخابية بأنه "الأصولي الإصلاحي أو المعتدل". بل أن بزشكيان نفسه كان ضد الحركة الخضراء التي خرجت من رحم أزمة 2009 وانتخابات أحمدي نجاد، وصرح أكثر من مرة أنه كان ضد المظاهرات التي شملت ربوع إيران في عهد رئيسي بعد مقتل مهسا أميني، كما أنه يعتبر أن ولاية الفقيه المطلقة حق ديني لا فصال فيه ولا يملك أحد تغييره. ولكن حضور بزشكيان في سلة الإصلاحيين السياسية ارتبط بتواجده السياسي في عهد الرئيس الأسبق محمد خاتمي، ومعارضته لبعض توجهات التيار المتشدد، كما أنه ليس له حضور شعبي قوي، إلا أن مشاركته الانتخابية مثلت أهمية خاصة في هذه المرحلة التاريخية.
فرغم أن النظام قد هندس الانتخابات ليضمن حضور جماهيري مرتفع، وأتت نسبة المشاركة (40 بالمئة) محبطة حتى لرأس النظام ذاته، ولكن إن لم يسمح النظام بمشاركة ممثل لتيار الاعتدال فقد تفقد العملية الانتخابية شرعيتها بالكامل، بنسبة مشاركة أرى أنها لم تكن لتصل في أفضل التوقعات إلى 25 بالمئة.
البرنامج الذي حاول تقديمه بزشكيان خلال حملته الانتخابية اعتمد على ملف الحريات والأقليات في المقام الأول. فقد حاول مغازلة الأقليات في مناظرته الأخيرة التي تمت يوم الثلاثاء الماضي، ليضمن مشاركتهم في الجولة الثانية من العملية الانتخابية يوم الجمعة الموافق 5/7، كما حاول دعم بعض التوجهات النسائية في المجتمع التي ترفض فكرة الحجاب الإجباري، تحت مبدأ الحرية الشخصية. ففي إحدى مؤتمراته الانتخابية الخاصة بالنساء، صرح أن الطريقة التي يُقدم بها الدين في إيران هي طريقة خاطئة للغاية ولا تمت لصحيح الدين بصلة (ويقصد فكرة الحجاب الإجباري). وعلى المستوى الاقتصادي، تبنى خطاباً يبدو متناقضاً إلى حد بعيد، فقد انتقد الفارق الضخم في الدخول بين طبقات المجتمع، وكأننا أمام توجه اشتراكي يسعى للعدالة الاجتماعية من منظور يساري. وفي نفس التوقيت، يقرر أنه سوف يسعى حال فوزه إلى إقرار مبادئ الرأسمالية الحرة، والانفتاح على الغرب، في مغازلة منه لـ"البازار" (السوق التجاري في إيران) المنتمي للفكر الاقتصادي الحر، مما أثار غضب المرشد خامنئي ذاته، واعتبر رمزياً أن مجرد إشارة بزشكيان للغرب تجاوز لمحددات الدولة الإيرانية.
بزشكيان يطرح نفسه بوصفه امتداداً لحكومة تيار الاعتدال الممثلة في حسن روحاني ومن قبله الإصلاحي محمد خاتمي الذي فاز بأعلى نسبة مشاركة جماهيرية في إيران تجاوزت 80 بالمئة من الكتلة الانتخابية. وفي نفس الوقت يحاول مغازلة الشباب الذي يعانون اقتصادياً وسياسياً داخل المجتمع الإيراني. لكنه في النهاية لا يتعدى كونه جزءاً من المعادلة السياسية سوف ينتهي دوره تماماً في الحياة العامة إن لم يفز بكرسي الرئاسة في الجولة الثانية.
التيار المتشدد ومعادلة الحرس والمرشد
على الجانب الآخر يظهر سعيد جليلي، المتشدد، بطل الحرس الثوري الذي فقد ساقه في الحرب العراقية، أو هكذا يقدمه النظام منذ سنوات عديدة، ممثل المرشد الأعلى في مجلس الأمن القومي الإيراني، كبير المفاوضين للملف النووي في عهد أحمدي نجاد، صاحب التاريخ الطويل في وزارة الخارجية، والمسؤول عن ملف الولايات المتحدة وأوروبا طوال فترة خدمته في الوزارة، والمقرب من آية الله مصباح يزدي رجل الدين المتشدد غير المؤمن بفكرة الانتخابات من الأساس، وأن اختيار قيادات الأمة يأتي بأمر مباشر من المهدي المنتظر عن طريق الولي الفقيه. فسعيد جليلي تسيطر عليه أيديولوجيا فكرة غاية في التزمت السياسي والديني، ولكن له حضور لا يستهان به داخل أروقة الحوزة الدينية، بل وداخل التيار المحافظ داخل المجتمع، والأهم أنه متسق فكرياً مع توجه الحرس الثوري الذي أصبح أميل للتشدد والمغامرة في ظل ظرف تاريخي معقد على المستوى الإقليمي. واضعين في الاعتبار أن التيار الأصولي أصبح المسيطر الآن على مجلسي الشورى (البرلمان) ومجلس الخبراء (المنوط به اختيار المرشد بعد وفاته) بعد الانتخابات التشريعية التي تمت في مارس الماضي.
ورغم ميول جليلي المتشددة، لكنه يظل المقرب من المرشد، والأقرب من المؤسسات الدينية التي تشكل جزءاً هاماً جداً من المعادلة الاجتماعية في الداخل الإيراني. فمثلاً ولأول مرة في تاريخ الحوزة الدينية، وبعيداً عن الأعياد الدينية المقدسة شيعياً، قررت مدارس وجامعات الحوزة إيقاف الدراسة بها خلال هذا الأسبوع، لينتشر طلاب الحوزة بين القرى والعشائر بهدف الدعاية لجليلي في المرحلة القادمة، على الأقل لضمان نسبة مشاركة أفضل من المرحلة الأولى.
بالإضافة للدعم الذي تلقاه جليلي من وسائل الإعلام والصحف المقربة من المرشد والحرس الثوري. فمثلا انتقدت جريدة (كيهان) المقربة من المرشد أداء منافس جليلي، بزشكيان، واتهمته بالفشل وعدم القدرة على تقديم حلول منطقية، في مقابل جليلي الذي قدم حلولاً اقتصادية تبدو منطقية من وجهة نظر الجريدة. رغم أن جليلي لم يشر إلا إلى فكرة اقتصاد المقاومة ومحاولة الارتباط بتحالف روسيا والصين، وتقديم الدعم الكامل لروسيا في حربها ضد الغرب سواء اقتصادياً أو عسكرياً، ورغم أن تلك الفكرة لاقت انتقاداً شديداً من التيار المعتدل، لكنها وجدت رواجاً كبيراً بين مختلف التوجهات الاجتماعية الرافضة للهيمنة الغربية خاصة الأميركية.
كما حاول موقع (تسنيم) المقرب من الحرس الثوري، أن يقدم جليلي بوصفه البطل المخلص في ظل ظرف تاريخي معقد قد يفوز فيه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب (الرافض للنظام الإيراني) بكرسي الرئاسة، وكذلك سيطرة التيار المتطرف على الحياة السياسية في إسرائيل، كما حاول الموقع أن يرتبط بين استمرار دعم محور المقاومة المتمثل في حزب الله وحماس و الحوثي،في مقابل تطرف إسرائيل وعنفها ضد أهل غزة وجنوب لبنان.
رغم أن أفكار جليلي المتشددة لم تلق قبولاً على المستوى الغربي، ولكنها حققت حضوراً جيداً على الصعيد الروسي والصيني، فمن مصلحة روسيا والصين أن تشكل إيران الحديقة الخلفية للعديد من المصالح الروسية، وكذلك الصين التي أصبحت هي المشتري الأهم والأكبر للنفظ الإيراني، وتلك المصالح السياسية والأقتصادية لن يحققها سوى جليلي في تلك المرحلة الحرجة تاريخياً.
كمحصلة نهائية، أزمة النظام الإيراني الحقيقية والتي يسعى إلى تجاوزها بمختلف الطرق يوم الجمعة القادمة، ليست صعود سعيد أو سقوط مسعود، ولكن في نسبة المشاركة التي إن إنخفضت عن 40 بالمئة سوف تشكك في شرعية النظام ككل، وقدرته على الحشد الجماهيري في انتخابات هامة كرئاسة الجمهورية ، لذا سيحاول جاهداً أن يُظهر المشهد الانتخاباتي بوصفه حشداً شعبياً ، بعض عن النظر عن الفائز، رغم أن معادلة الدولة الإيرانية بشكل عام أميل لصعود سعيد جليلي، مع غياب أي تكتل سياسي متماسك داخل التيار الإصلاحي.