الصحافة هي المكان الذي أجدُ فيه نفسي، لا سيما أنها صاحبة الجلالة ولا شيء آخر يوازيها بالنسبة إلي. نعم هي كذلك، ونشر مادة صحافية أعدها بمثابة العثور على كنز كبير، وهذا ما يعني أنّي ملكت الدنيا وما فيها، ودرجت عليه ومنذ بدء مشواري في هذا العالم الرحب الذي لا تحده حدود بالمطلق.
يظل العمل في الصحافة أجمل أيام عشتها وما زالت، بالرغم من مرارة بعضها وقسوتها، وما شاب ذلك الطريق من صور مؤلمة ومقرفة!
منذ نعومة أظفاري كانت انطلاقتي في مدينة الرّقة ـ درّة الفرات ـ التي لحقت بهذا الاسم، وصارت تعرفُ به في ما بعد.
الرّقة مسقط رأسي، المدينة التي سبق أن احتلتها "داعش" وقضت على أعداد كبيرة من أهلها، وقتلتهم دون وجه حق، ودمّرت وخرّبت جزءاً كبيراً من أبنيتها، وبعد جهد جهيد تمكنت قوات التحالف الدولي، ممثلة بالولايات المتحدة الأميركية من دحرها وعودة الحياة إليها من جديد بعد أن هجرها قسم كبير من أهلها إلى الداخل السوري، ومنهم من أسعفتهم ظروفهم المادية الالتحاق بركب الدول الأوروبية وغيرها.
وقبل خضوع الرّقة لـ"داعش" والسيطرة عليها، وحصول كثير من القضايا والمسائل الإنسانية والاجتماعية، والمواقف الكثيرة والمثيرة للجدل، وبعضها كان مقززاً، خاصة أنها التقت مع مصالح أشخاص أكثر ما كان يهمهم الأذى، والضحك على ذقون الناس البسطاء، ومنهم ما زالوا وإلى اليوم، يجلسون على كراسيهم، ويتحكّمون بمصير الناس، بالرغم من أنّ الثورة السورية جاءت رداً على أمثال هذه الصور "الرثة"، وسعت إلى أن تقوّم اعوجاج كثيرين، وإزالة البعض عن كراسيهم المتشبثين فيها، وأبعدتهم عن صيد المواطن وخداعه، وعن سرقة أموال الشعب، وتراهم في حال سألتهم عن شيء يخصّ العمل يتذمّرون ويشكون حالهم، ويتباكون وهم في الواقع تجاوزوا حدودهم في أكل الأخضر واليابس، وبالكاد، وبحسب ادعاءاتهم يقدرون على تأمين احتياجات أسرهم، ويلتقطون رزقهم، بل تراهم يمدون أيديهم إلى المتعهدين الذين تلزّم إليهم المشاريع المهمّة ويبتزونهم، وبالرغم من كل ذلك، تراهم يتمتعون برخاء العيش، ويركبون أفضل ماركات السيارات، ويبذّرون الأموال هنا وهناك، وتراهم يتألمون ويبدون أسفهم لشغل هذه الوظائف بذريعة أنها لا تؤدي الغرض، ولا تسدّ الرمق، وهم في الواقع نهبوا كل ما تحتوي من منافع.
وفي إحدى جولاتي الصحافية على فلاحي القرى الشمالية في مدينة الرّقة في نهاية التسعينيَّات من القرن الماضي، والرّقة كما هو معروف عنها مدينة زراعية بامتياز، ويعتمد الأهالي فيها بصورة مباشرة ورئيسة على الزراعة وتربية الماشية، وصلتني شكوى من أحد الفلاحين يؤكد فيها ما رسم في الخفاء في تلك المنطقة والضرر الذي لحق بعدد كبير من الفلاحين وبيع أراضيهم دون علمهم، وإبعاد قسم كبير منهم عن فلاحتها في الموسم الشتوي.
الفلاح، كما يعلم الجميع، لا مورد رزق آخر له سوى أرضه، وما تدرّه عليه من نتاج في نهاية الموسم. وبعد أن تمكنتُ من جمع الوثائق الضرورية، ونقل صورة ما يحدث هناك إلى الجهات المسؤولة، بالتأكيد استغربوا بادئ الأمر ما بحوزتي من أوراق مهمة، وتنكروا لما حدث، فبادرت إلى كتابة مادة صحفية على ضوء ما لدي من وثائق دامغة، وبعد نشر المادة بأسبوع وصلت لجنة تفتيشية من قبل رئاسة الاتحاد العام للفلاحين للتأكد من صحة ما نشر، وعلى ضوئها أُعْفِي رئيس اتحاد فلاحي الرّقة من منصبه، بالإضافة إلى عدد من الأعضاء في الاتحاد.
إقرأ أيضاً: صلاح... وميركاتو صيفي ساخن!
إزالة رئيس اتحاد الفلاحين كان بحد ذاته تحدٍ كبير، لا سيما أنَّ من قام بتعيينه قريب له ومقيم بدمشق، ويشغل مركزاً حساس في القيادة القطرية للحزب، وكان في وقتها يشغل رئيس مكتب الفلاحين القطري، الذي سبق له أن تولى مناصب قيادية مهمة. وما يثير الضحك أنه، وبعد فترة من الزمن، وبعد إزالته من منصبه وإحالته إلى التقاعد، التقيته صدفة في محل صديق عزيز للتصوير الضوئي، وهو طالما يلتقي فيه أبناء الرّقة ومسؤوليها، وعاتبني بشدّة على تناولي المادة الصحفية، وكان جوابي لذلك المسؤول الكبير، الذي تربطني به هو الآخر رابط قرابة، إنني أعمل بضميري، والصحافة بالنسبة إلي رسالة وعشق، ولا يمكن بحال السكوت عن الخطأ مهما كانت النتائج، حتى ولو اضطرني ذلك إلى دخول السجن ومن أوسع أبوابه، وهذا ما حدث لي في احدى المرات!
وفي السياق، وبعد مضي حوالى أسبوعين على إعفاء رئيس اتحاد الفلاحين، كانت الرّقة تستعد لاحتضان مهرجان طلائع البعث المركزي، وهو مهرجان سنوي تشارك فيه جميع المحافظات، وقبل انطلاق المهرجان بأسبوعين كنت نشرت مادة صحفية كتبت فيها عن تردي واقع الخدمات في المدينة، وسوء تنفيذ الأعمال التي يجري التعاقد عليها وتنفيذها، وهي لا تتناسب مع ما يُصرف لها من أموال في تلك الفترة لإظهار الرقة بصورة جيدة لجهة استقبال وفود الطلائع الصغار المشاركين في المهرجان، وفي اليوم التالي من نشر الريبورتاج، اغتاظ المحافظ في حينها أحمد شحاذة خليل، فأرسل في طلبي، على وجه السرعة، وفي مكتبه الوثير كان يجلس المهندس خليل شلاش رئيس نقابة المهندسين بالرّقة الذي شاهد محور الحديث الذي دار بيني وبين المحافظ الذي كان متجهم الوجه عابساً، وبمجرد دخولي إلى مكتبه والمثول أمامه، وجه إلي بعض الكلمات غير اللائقة، وكأنه فوق القانون، أو لا يمكن لأحد أن يحاسبه، أو يصده عن استصدار أي قرار، وبالرغم ذلك لم أقف مكتوف الأيدي، ولم أرد على أسئلته، بل واجهته بكل دم بارد وبابتسامة عريضة، وهذا ما أغاظه جداً، وكل ذلك رداً على نشر مقالة رئيس اتحاد الفلاحين، وتوجت أخيراً بالمقالة الثانية التي تتحدث عن الواقع الخدمي في الرّقة وسوء تنفيذ المشاريع المتعاقد عليها سواء لجهة شركات القطاع العام، أو حتى مع المتعهدين أصحاب النفوذ الذين تربطهم بالمحافظ، ومدراء الدوائر الخدمية بالتعاقد لجهة تنفيذ المشاريع في المدينة روابط مادية ليس إلا منافع كثيرة تذهب في نهاية المطاف إلى جيوبهم وتعمّرها بالدراهم.
إقرأ أيضاً: سالزبورغ النمساوية... الغد الأمل
بعد سنوات، شاءت الظروف أن ألتقيت المحافظ صُدفةً في أحد فنادق دمشق، في منطقة "البحصة" على وجه التحقيق. وكان في حينها خارج سُلطته التي لم يَعد يَنتفِعُ منها بشيء، أو يُنفّعُ بها أحد، واكتفى منها بما مضى وانقضى.
من نظراتي وأنا أمر بالقرب منه، عَرف في حينها أنّ فترة المناصب وشغلها لا تدوم، فالدوام لله، والصدق في العمل باق ويستمر، وما حدث ويحدث ما هي إلّا "خزعبلات" سيأتي اليوم وستخلص فيه إلى نتيجة، الكل خاسر فيها، وهذا هو مصير كل مسؤول لا يعرفُ الإخلاص في العمل، أو التعامل مع الناس بحب ورفق، وكل ما يهمّه مصلحته الخاصة، والسعي إلى ملء جيوبه من أموال البلد، والإضرار بالناس، فضلاً عن إهانة الصحفيين والاساءة إليهم، والنيل منهم دون وجه حق، وهم من عامة الناس، ولا همّ يشغلهم سوى القيام بواجبهم المهني، والقيام في مشاريع عمل لا ناقة لهم فيها ولا جمل!