كان له دور الدينامو، أو ربما كان هو الدينامو نفسه، تلك القطعة المشحونة التي تمنح محرك الثقافة المغربية شرارات وطاقة ، لكن بصمت، وبنكران ذات. ذلك باختصار شديد هو محمد ابراهيم بوعلو، أو بالأحرى، واحدة من صفاته.
في لقاءاتي المتواترة مع محمد الخمار أواسط الستينيات من القرن الماضي، لم يمنحني هذا الشاعر سوى القليل عن أخبارمحمد إبراهيم بوعلو حين طرحت استفسارا، لكن حين أخبرته أنني أرسلت لـ(أقلام) مقالا نقديا لقصائد العدد الماضي أصبح الحديث عنه يلج بي مسالك معقدة، يتداخل فيها السياسي العام بالشخصي، ويتماهى كل ذلك مع مشروع "قصائد" التي بدأ الخمار نشرها بمجلة (أقلام) الوليدة، ومنذ تلك الفترة البعيدة تشكل لدي تمثل أولي لشخصية بوعلو، في نزوعاته واختياراته وفي أسلوب إدارته للمجلة، وانمحت لدي صورة ذلك الكائن الشبحي الذي يدير مجلة جديدة مشرعة النوافذ، ولا تشبه أبدا "مجلة القصة والمسرح" ذات العمر القصير.
كان النشر وقتها خارج الصحف اليومية الحزبية محصورا في (آفاق) غير المنتظمة، وفي (دعوة الحق) ذات الطابع التقليدي ،ولم يكن شاعر مثل الخمار قلقا سوى من ردة فعل منافسه الشعري الأثير أحمد المجاطي، خصوصا بعد أن نشرت (أقلام) للمجاطي قصيدة "الفروسية"، مفتتحة بذلك جدلاً ستتسع رقعته لتشمل كل ما كتب في شعر التفعيلة. لم أصل شخصيا سوى إلى خلاصات سهلة الإدراك ومألوفة، في الاستلهام وفي تناسخ التجارب وعن دلالات الغموض وضرورات التجريب وأوجه الالتزام في الشعر والنثر، لكني من جانب آخر كنت أحاول تمثل ملامح هؤلاء الأشخاص الذين يتسببون في قض مضجع الثقافة المغربية الوليدة في سنوات الاستقلال الطرية ، وبدا لي حينها محمد ابراهيم بوعلو، أو هكذا تصورته، كائنا صلبا قدّ من صخر نفثته فوهة بركان، وهذا البركان لم يكن سوى حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الحزب الذي قال (لا) لدستور 62 وخسر انتخابات 63 وربحها في نفس الوقت، إلى أن التقيت بأحمد المجاطي الذي كان له رد فعل هجومي على مقالي بـ(أقلام) حول شعر التفعيلة بعد فترة قصيرة، وأصبحنا بعد ذلك متجاورين في الأمزجة التي تمتح من جموح تلك المرحلة نسغها وماءها.
من حين لآخر كان المجاطي يمازح بوعلو على طريقة التليباتي،فبوعلو هو الكائن غير المنظور الذي تسبب في لقائنا وتعارفنا. حين نتذكره معا في سياق حديث ما له علاقة بـ(أقلام) يصبح بوعلو جزءا من الحديث ومن الجلسة بقوة هذا الاستحضارالتليباتي، تستدعيه كلمات ومُزَح المجاطي وأنا أستمع إليه بنشوة فأكاد أرى هذا الغائب رأي العين، لم تكن حينئذ لبوعلو هيئة محددة معلومة في ذهني، لا هو قصير ولا هو طويل، ولا صدى لصوته، بل صوته هي حركاته وأفعاله كما هي محفوظة في الملفوظات، مثل كائن مشكل من كلمات وصور عابرة، خصوصا حين يصفه المجاطي وهو معتكف جالسا في خلوته، حينئذ أرى بعين المخيلة بوعلو يستريح على كرسي من قصب أو من خشب عار من الزينة أمام طاولة عليها أقلام ملونة، حوله أغراض قديمة عديدة مما يحتاج إليه الأطفال في الرسم، منكبا على العمل دون توقف، مرسلا سهامه الحادة إلى الخصوم السياسيين الذين نعرفهم بالاسم وإلى الخائبين من الكتاب، أضحك وأقول، وهل بوعلو من هواة جمع الطوابع؟ نعم، وأيضا يربي دود القز. لديهالعدة الكاملة لذلك، ومن أين يحصل على أوراق التوت لتغذية تلك المخلوقات الصغيرة؟ لا شك أن لديه حديقة في جانب من البيت ،ولا شك أن شجرة توت يانعة توجد هناك. بلا شك. والحرير، ماذا يصنع به؟ الحرير هو القصص التي ينشرها في الصفحات الأخيرة لكل عدد من (أقلام).
لا أتذكر من تلك الأحاديث المازحة التعويضية عن غياب بوعلو الجسدي سوى تلك الصورة عن " طفل" كبير يرعى الأزهار، ويربي دود القز، ويلون رسوماته التوضيحية، ويكتب قصصا نحيلة رقيقة لا ترهل فيها، كأنما تكافئ الصمت بقدرتها على اقتصاد الكلمات، لكن، وفي أوقات معلومة، أراه يتحضر للانتقال إلى كلية الآداب لإلقاء درسه في علم الجمال، الجمال وليس مبحث الوجود أو الأخلاق، أو لحضور اجتماعات الشعبة، حينها أتصوره يتحول إلى رجل مسطري ، صارم المبادئ، واضح المواقف لدرجة السطوع، يحدث هذا الانتقال والتحول الكانتي في كيانه دفعة واحدة، دون أن يطرح سؤال هويته، ودون أن يتأخر دقيقة عن مواعيده، أو يتهاون في أداء واجباته مهما كانت الأسباب.
عن طريق بوعلو عرف القراء المغاربة عبد الله العروي في بداياته مترجما لهنري دو مونتيرلان، وتابعوا محمد عابد الجابري باحثا عن ابن خلدون ومحللا لأهداف التعليم الأربعة. كما لا يمكن إنكار أن الدرس الفلسفي المحفز للنقد والسؤال، والمنفتح على المذاهب المادية والتجريبية النقدية، قد ساهم بوعلو صحبة احمد السطاتي وآخرين في وضعه على "أرض الواقع" في المدرسة المغربية،مجاورا لما أضافه حسن حنفي وسامي النشار إلى هذه الوصفة، كل ذلك وغيره أنتج نواة لمجموعة مفكرين نشطين من أمثال عبد السلام بنعبد العالي وسالم يافوت وكمال عبد اللطيف ومحمد وقيدي..وغيرهم، وجميعهم وجدوا في (أقلام) حصنا وحضنا، قبل أن ينشق غبار البدايات ويتخذ كل اسم له طريقا خاصة به.
لا يتوقف دور بوعلو على نحت ملامح التفكير الفلسفي العقلاني في بيئة تعليمية مضادة للفلسفة ولمضامينها التحررية بحكم تقليديتها وضيق أفقها، وراسما تلك الملامح على قسمات وجوه ممثليها من المفكرين الشباب، بل انحاز بحكم مواهبه البيداغوجيةإلى تلك الطفولية الكامنة في ماهيته وشخصانيته، وربما تكون مجلة (أزهار)، ومئات القصص المرفقة برسومها التوضيحية المعدة للأطفال أهم مشروع منجز وجد فيه بوعلو هدف حياته، سار على الشوك وراهن على إخراج مشروعه للوجود لفائدة الأطفال المغاربة وقاوم شعوره بالإحباط والجحود ثم غادرنا إلى الدار الأخرى بعد أن وضع مشروعه الكبير على أعناق مسؤوليتنا. فهل يستطيع هذا "الطفل" الكبير أن يهزم تخاذلنا ونكراننا للجميل؟ وهل سينتصر حضوره على غيابنا؟