إيلاف من الرباط: "لا أحد بإمكانه أن يتحدث عن امرأة أفضل من امرأة". لعلها القناعة التي يخرج بها قارئ رواية"من أم إلى أم"للكاتبة المغربية هند برادي،التي صدرت أخيرا عن دار النشر "فيرون" بفرنسا.
وجاءت الرواية في شكل دعوة لاستكشاف العالم الداخلي للنساء،عبر خيط ناظم لعوالمهن يرتكز على تجربة الأمومة. ويتعلق الأمر، هنا، بما يمكّن عملية السرد النسائي من أن تكون أكثر إمتاعا، إقناعا وتعاطفا.
خوف ومعاناة
من خلال محاولة استكشاف عالمهن الداخلي، تبعث برادي رسا
هي ترى أن المرأة تتمتع بحدس متطور للغاية،وأنها عندما تمر من معاناة تجربة الحمل والولادة، فذلك دليل إضافي على كل ما هي قادرة على فعله.
تدور أحداث "من أم إلى أم" بين مراكش في 1937 وأمستردام في 2010،متتبعة تجربة امرأتين،ربط بينهما القدر، رغم فرق السنوات وبعد المسافة.
تأخذ الرواية قارئها في رحلة بين بلدين،من خلال قصة امرأتين،خلال تجربة الحمل،جمعتهما رغبة البحث عن الحقيقة والحرية: "امرأتان، حمْلان، بَلدان، ورغبة واحدة من أجل البحث عن الحقيقة، إلى غاية الكشف تدريجيا عن المأساة العائلية التي تجمعهما وتحررهما".
تقول فقرة من تقديم الرواية،التي تتحدث فيها كاتبتها عن "غونيي"المغربية التي تبلغ من العمر 38 سنة،وتكتشف أنها حامل بطفلها الخامس وأن والدتها قد فرت مرة أخرى، و"فْريد"وهي امرأة فرنسية - هولندية في عقدها الرابع، تعيش تحت وقع صدمة حمل غير مرغوب فيه يعيدها إلى ماض مؤلم.
أضواء الماضي وظلاله
اختارت رواية برادي الغوص في أعماق المرأة، مستكشفة برقة وعذوبة، الآلام الخفية والآمال المنسية لشخصياتها. ولا يتم التعامل، هنا،مع الأمومة كحقيقة بيولوجية فقط،بل كتراث عاطفي مركب، تتكسر من خلاله أضواء الماضي وظلاله.
تسير حكاية المرأتين في خطين متوازيين قبل أن يلتقيا في مأساة عائلية. فيما تدور أحداث الرواية على مدى أشهر الحمل التسعة، من خلال تجربة تعاش بطريقة مختلفة تماما.
وتقوم الرواية على حبكة تتلخص في أن "جوهر الرواية هو مأساة عائلية، لكن قصص النساء لا تقل أهمية". لذلك كان هدف الكتابة، هنا، كما تقول برادي، ليس اكتشاف المأساة العائلية،ولكن إظهار كيف تعاش ويحصل الشعور بها، ويتم حكيها من قبل النساء.
ولادة جديدة
تعتقد برادي،عند حديثها عن تجربتها الروائية الأولى، أننا لا نتحدث بما فيه الكفاية عن المجاهل النفسية والعوالم الداخلية للنساء، وعن الاضطراب الهائل الذي تمثله الولادة،باعتبارها، في الواقع، ولادة جديدة للمرأة التي تكتشف وتتعلم الكثير عن نفسها عندما تصير أما.فتتغير نقط ارتكازها في الحياة،وطريقةتعاملها معها،فضلا عن أولوياتها.وذلك تحت ضغط الآلام التي تعيشها والتنازلات التي تقدمها، في هذه المحطة الأساسية من حياتها.
ولكتابة روايتها،انطلقت برادي من قناعة ترى أن توثيق تجربةٍ شيءٌ،أما الشعور بهذه التجربة وخوضها فشيءٌ آخر.وبالنسبة لبرادي،ليس بإمكان أي كان أن يتحدث عن امرأة أفضل من امرأة.وأكثر من ذلك ، يجب ألا تكون امرأة فحسب، لكي تتحدث عن المرأة بشكل أفضل. بل وأن تكون قد مرت من نفس المواقف والتجارب، من منطلق أن المرأة عندما تكون أما، فهي ستعرف كيف تتحدث بشكل أفضل، عن الأمومة.
شك وقلق
كتبت برادي روايتها خلال إجازة الولادة. كان ابنها بالكاد في منتصف سنته الثانية، عندما كانت منكبة على كتابة روايتها. كانت تعتني بطفلها بدوام كامل.
لا تخفي، اليوم، أنها لم تكن لتتمكن من كتابة روايتها من دون أن تكون أما. وترى أننا نتحدث كثيرًا عن أنفسنا عندما نكتب. أكثر من ذلك، هي ترى أن ذلك كان بالنسبة إليها شكلاً من أشكال العلاج؛ مشيرة إلى أنه كان من الجيد لها أن تتحدث عن ذلك، حتى وإن تم ذلك بطريقة مختلفة وملتوية للغاية، حيث يتزايد منسوب الشك والقلق، وفي بعض الأحيان الخوف من عدم القدرة على حماية الوليد بطريقة ما. هذا فضلا عن علامات الاستفهام الكثيرة التي تهجم على حين غرة عندما تصبح المرأة أماً.
بهذا، تبرز التجربة الخاصة للكاتبة باعتبارها أما شابة، إذ نجدها تشدد على المرور من نفس التجربة للكتابة عنها، مؤكدة القدرة العلاجية العجيبة الكامنة للسرد، مع قناعة تشدد على أننا "كثيرا ما نتحدث عن أنفسنا عندما نكتب"، وهو معطى أكدته برادي في حوار لها مع وكالة الانباء المغربية، بقولها:"هناك عدة أشياء عشتها خلال الحمل أو الولادة، وشعرت بالرضا عند حديثي عنها".
وإيمانا منها بأنه لا يوجد أفضل من امرأة لمخاطبة امرأة، تثير برادي نقاطا تتعلق بالهواجس والقلق والخوف من عدم القدرة على حماية الأم لطفلها بطريقة معينة، مشيرة إلى "الكثير من الأسئلة التي تظهر فجأة عندما تصبح المرأة أما، ولا يتم التحدث عنها بما فيه الكفاية".
أسرار عائلية
لا تخفي برادي أن المصدر الرئيسي للإلهام، في روايتها الأولى، كان القصص المثيرة المروية من طرف جدتيها، المغربية والفرنسية، عن الماضي والأصول والأمسيات العائلية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الأمر يتعلق، في حالتها، بروائية شغوفة بالكتابة وعلم النفس، وبكل ما يتعلق بالعلاقة أو الانفصال بين الأم والطفل، وكل ما هو أسرار عائلية.
الروائية المغربية هند برادي
بهذا، تكون برادي قد استلهمت روايتها من هويتها الفرنسية - المغربية المزدوجة، التي تعكس أصول البطلتين، من خلال عالمين، ثقافتين وبلدين. وبالنسبة لبرادي، فالرواية هي تكريم لجدتها، بشكل خاص، وللمرأة بشكل عام.
وأخذا بعين الاعتبار أحداث الرواية، فهذه الأخيرة تشكل بارقة أمل من خلال صورة بطلتين مثابرتين، ستتعلمان، شيئا فشيئا، كيف تثقان في نفسيهما وتفهمان خلفيات قصتيهما، مدفوعتين بالرغبة في اكتشاف الحقيقة التي تتشبثان بها. وانطلاقا من المسارات المرسومة لهما، تتبنى الكاتبة رسالة مزدوجة؛ فمن جهة، هي تشجع النساء على اكتساب الثقة. فيما تؤكد، في ما يتعلق بأسرار العائلة، من جهة ثانية، أهمية "تحرير الكلام"، إذ "غالبا ما يكون لدينا الانطباع بأننا نحمي الأطفال من خلال حفظ السر. لكن علم النفس اليوم ينبه إلى أن هذا التصرف يتسبب في الكثير من الأضرار".
أكثر من رواية
تبدو رواية "من أم إلى أم"كما لو أنها كتبت للاحتفاء بقوة ومرونة المرأة، في آن. خلالها، تقود برادي القارئ عبر العوالم
بهذا، تصير "من أم إلى أم" أكثر من رواية. إنها تجربة عاطفية مكثفة سجلت فيها الكاتبة ببراعة، مدى التعقد الذي يسم العلاقات الإنسانية، وقبل كل شيء، قدرة الفرد على التغلب على مخاوفه و"إعادة اختراع" نفسه.
أسرار وجراح
مع "من أم إلى أم"، يقف القارئ مع برادي على أنه "حتى مع وجود أسرار لا نتحدث عنها، فالأطفال يشعرون بذلك، وتنتقل هذه السلوكيات من جيل إلى آخر دون وعي"، ليبقى "من المهم أن نثق في أهمية تبادل الأفكار والحديث بحرية". وبهذه الطريقة، تضيف برادي، "يمكننا التشافي من الجراح، وتجاوز العقبات والمضي قدما في الحياة".
كما تثير برادي، من خلال روايتها، مسألة على قدر كبير من الأهمية بالنسبة للنساء، تتمثل في أن المرأة تتعرض للكثير من الضغوط، سواء من المحيطين بها أو من المجتمع الذي يمكن أن تختلف توقعاته الضمنية اختلافًا كبيرًا من أسرة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر. وهي ترى أن هذا الضغطً يمكن علاجه بالإنصات والعناية، من دون إصدار أحكام.
يتعلق الأمر، هنا بما يشجع النساء على الثقة في أنفسهن. أما في كل ما يتعلق بأسرار العائلات، فالأمر يقوم على أهمية التقاسم وتحرير الكلام. بهذه الطريقة فقط،
من الرواية
مما نقرأ في رواية "من أم إلى أ
- خذي الطفل،أعطه إلى الفرنسي،
بقيت دادا صامتة لبضع ثوان. كانت لدى الصغيرة خطة. وجدت تأكيدًا
- انتظريني هنا، سأعود بسرعة. تجنبي التحرك، في حالتك يمكن أن تموتي !
طبعت قبلة على الجبين البارد للفتاة، وخرجت في الليل.
- وداعاً.. وداعاً يا صغيرتي".
سيرة كاتبة
يذكر أن هند برادي، وبعد مسار علمي وسنوات من عملها كمهندسة اتصالات، تركت وظيفتها في سن الـ 28 لتصبح رائدة أعمال وتحقق العديدة من أحلامها، إذ أصبحت مدربة لليوغا. كما انتقلت للعيش في جزيرة، وانضمت لفرقة مسرحية، واستأنفت دراستها، وهي اليوم مدربة تنقل حماسها لزبنائها من أجل مساعدتهم على التطور وإعادة اتصالهم مع سعادتهم وقوتهم الداخلية ليعيشوا أحلامهم.
تقول برادي عن نفسها: "أنا متحمسة للحياة، شغوفة منذ صغري بكل ما يتعلق بالإنسان ورفاهيته وتعايشه الجيد مع الآخرين".