: آخر تحديث

نكسون والسادات في «خناقة شوارع»

4
3
2

كانتِ المعركة حاميةً، زعيق وصريخ كأنَّهما آلاتٌ نحاسية تضرب على الأذنين في اللحظة نفسها، مطارق متوالية، وجمهرة كبيرة، نجومها شباب يخلعون القطع العُلوية من ملابسهم في عزم على العراك لن يحجزه حاجز. لكن الناس تحجزهم، فيتحول المجهود الأكبر إلى صراع الحاجز والمحجوز، وطلقات من ألفاظ نابية واتهامات بالشرف لأشخاص بأعينهم مع تفاصيل وقائع مدعاة. قلت في نفسي إن كارثة في الطريق لا محالة. تركت مشاغلي ووقفت أتفرج مترقباً وجلاً، فبدا أنَّ المشهد الصاخب دائرة تتحرك بلا تصاعد، ساخن، ولكنه ممل. وعليه آلت نهايته؛ هدأ شيئاً فشيئاً، وانفض كل إلى حال سبيله.

كانت تلك أول أيامي في القاهرة قادماً من الصعيد. المشهد محفور في ذاكرتي لأن المعارك عندنا مختلفة تماماً. فيها كثير من الضرب العنيف وقليل جداً من السباب المحسوب. لا يسلم مشارك في المعركة من شجّ أو جرح أو كسر، لكنك لا تكاد تسمع مسبة. اتهامات مثل التي أطلقت في تلك الخناقة القاهرية معناها عندنا حرب عائلات.

تذكَّرت هذا المشهد وأنا أستمع إلى حوار للرئيس الأميركي السابق ريتشارد نكسون عن صفات في الرئيس المصري الراحل أنور السادات. في الحوار حكى نكسون عن لقاء جمعه بسابقيه فورد وكارتر، كان السادات موضوعه. عَدَّد صفات اتفق ثلاثتهم على تحليه بها، ثم أضاف: «واتفقنا أيضاً على أنه أظهر رؤية عظيمة، الرؤية في النظر إلى مشاكل اللحظة والتطلع إلى المستقبل».

ما الرابط بين عركة محلية وصراع دولي؟

نوع السلوك في لحظة صراع يكشف عن «رؤية». فهمت أن الطبيعة العائلية للصعيد تحكم نظرتها للخناقة: الجرح سيلتئم والكسر سينجبر، ضربتني وضربتك. أما الاتهامات فتكشف عن مكنون صدرك، وتنزع المودة في مجتمع متداخل بالنسب والمصاهرة والجوار الممتد لأجيال، فتقوضه. ربما تشفي غليلك الآن لكنها ستكون سلبية الأثر على الجميع لاحقاً. لن تنسى عمتك المتزوجة من العائلة الأخرى أنك أهنتها، ولن ينسى خصومك أنك اتهمتهم في شرفهم وأخلاقهم.

والصراع هو المختبر الحقيقي لسلوك يراعي المستقبل. سواء كان الأمر محدوداً في خناقة جيران، أو كان ضخماً في حرب بين دول، أو نزاع حول مصالح، فجوهر «استشراف المستقبل» واحد: غرض أبعد يجب ألا تنشغل عنه حتى وأنت تضرب بقوة، وتدافع عن نفسك بكل ما أوتيت، وتتجنب خسارة تحط من قدرك. على ما في تعبير نكسون عن السادات من إيجاز، استخلص المكوّن الفاعل في هذه الصفة القيادية النادرة والمؤثرة.

نلاحظ في كثير من الكتابات السياسية، ولا سيما مع انتشار السوشيال ميديا، غرقها في اللحظة، برغبة جارفة في الحصد من لايكاتها وثنائها، وأحياناً برغبة في انتصار فريقك أو بلدك. مفهوم، ولكنه غير مقبول ممن مهنته الكتابة السياسية، وإلا اكتفينا بما يكتبه الجمهور. المسؤول عن فريق لا يذعن لغضب الجماهير بعد هزيمة في مباراة. كما لا يغويه بريق فيسقط في فخ زحام الأهداف الفرعية. بل يبقي عينيه على استراتيجية متكاملة تحقق أفضل الممكن في حدود القدرات. الضرب العشوائي للآراء تعويلاً على فيضان السوشيال ميديا، حيث تختلط البصيرة بالعشوائية، يرفع صاحب الرأي، ولكن إلى المدرجات.

والمشتغل بالسياسة دليل رحلة كشفية. في ذهنه خريطة طريق تؤهله لهذا الدور. يختزن من الإشارات والدلالات ما يمكنه من قراءة القادم، وما يجعل أصحاب المصالح يثقون في قدرته على الوصول بهم إلى غايتهم.

في الطرق المألوفة كل الناس خبيرة. لكن الرؤية هي القدرة على بناء سيناريو واقعي انطلاقاً من لحظة راهنة، وتقييم أثر منعطف بسيط على المسار كله.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد