رغم الجدل الصاخب الذي أحاطَ بالزيارة الخامسة للمبعوث الأميركي توم برّاك والسيدة مورغان أورتيغوس ووفد الكونغرس نتيجة تصريحات برّاك الحادة وتسريحة أورتيغوس، ما صدر عن الزيارة يعتبر أهم موقف أميركي من لبنان منذ سنة 1982 والعمل على اتفاق «17 أيار» بين لبنان وإسرائيل. فما أدلى به السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام والسفير برّاك من القصر الرئاسي، يشكل انعطافة غير مسبوقة بددت الانطباع الذي تكرر عن فتور اهتمام واشنطن بلبنان إلى حد انعدام وجود سياسة أميركية تجاه هذا البلد.
كلام غراهام ركّز على نقطتين: الأولى حازمة مفادها أننا «لن نناقش ما ستقوم به إسرائيل إلا بعد نزع سلاح (حزب الله)... وإذا لم يتحقق ذلك فلا معنى للمحادثات». والثانية تقول إن «ما حصل هو أكبر تغيير في تاريخ لبنان، وأميركا يهمها الدفاع عن لبنان وتنوعه الديني... إن فكرة (معاهدة دفاعية) بين الولايات المتحدة الأميركية ولبنان هي لحماية التنوع الديني فيه».
أما السفير برّاك فقال بشأن نزع سلاح الحزب: «إن المقترح اللبناني لن يكون بالضرورة ذا طابع عسكري»، مشيراً إلى أن إسرائيل ستقدم بدورها «اقتراحاً مقابلاً» فور تسلمها الخطة اللبنانية. ولفت إلى أن واشنطن تسعى لتقديم بدائل للبنان من خلال «إشراك دول الخليج، وفتح آفاق جديدة ضمن منطقة اقتصادية»، مشدداً على أن إسرائيل لا تريد أن تحتل لبنان الذي بدوره يستطيع إقناع الحزب «بطريقة غير عدائية، ودون أي جو حرب أهلية، للانضمام إلى دولة لبنانية واحدة».
بعد كلام غراهام وبرّاك، لم تعد الإجابة الإسرائيلية على الورقة اللبنانية بالأهمية نفسها، إذ رسما مساراً واضحاً على السلطة اللبنانية واللبنانيين بعامة إذا شاءوا اختياره، ونتيجته انسحاب إسرائيل وحماية وضمانات أميركية وإعادة إعمار مع شراكة خليجية. المسار الأميركي يتجاوز المطالب الإسرائيلية لجهة منطقة عازلة خالية من السكان، وفي نهاية المطاف، الحدود الدنيا لهدف واشنطن هي وقف نهائي ودائم للعمليات العسكرية بين لبنان وإسرائيل ونزع سلاح الحزب الذي سوف يفقد دوره بعد ترتيبات أمنية على غرار سوريا، والحدود القصوى تطبيع للعلاقات. الواضح أن الهدف النهائي للأميركيين هو توسيع الاتفاقات الإبراهيمية لتشمل مستقبلاً لبنان وسوريا عندما تنضج الظروف المحيطة.
بعد هذه الزيارة وما صدر عنها، بات لبنان أمام خيارين كلاهما محفوف بالمخاطر نسبة لأوضاعه الداخلية، وهي شديدة التعقيد من جهة، ومحاولات إيران للحفاظ على ما تبقى لها من نفوذ على السياسة اللبنانية عبر «حزب الله» من جهة ثانية.
الخيار الأول هو السير بالخطة الأميركية. مهما كانت مصالح واشنطن، ينبغي على اللبنانيين أقله التفكير جديا في هذا المسار الذي يخدم القيم والمصالح الأميركية ويتماشى معها، كما يخدم لبنان المضطرب وغير المستقر والمفلس منذ عقود. في الوقت نفسه، هذا الخيار-الفرصة الذي قد لا يتكرر، أمامه عقبات كثيرة وصعبة لأنه يتطلب وسط هذه الأوضاع المتداخلة والمشدودة انتقال لبنان من ضفة إلى أخرى تعتبرها شريحة واسعة من اللبنانيين «الشيطان الأكبر» ومعادية لقيمها ومبادئها وعقيدتها الدينية والسياسية. لن تكون مواجهة رفض هذا الخيار من هذه الشريحة أقل شراسة مما يحصل إزاء مطلب نزع السلاح، وقد يعرّض البلاد للانسداد السياسي القاتل ومخاطر اضطرابات أمنية مجهولة الأبعاد.
الخيار الثاني هو التهرّب بلباقة ودبلوماسية على الطريقة اللبنانية من العروض الأميركية، في أسلوب بات عقيماً بخاصة مع هذه الإدارة المختلفة عن سابقاتها. الهروب معناه محاولة التعايش مع المزاج الإسرائيلي غير المفهوم ومع استمرار الخروقات الأمنية التي قد تتطور إلى عمليات حربية كبيرة أو صغيرة، وربما إلى حرب انتحارية واسعة بحسب أهداف الراعي الإيراني، لا سيما بعد أن يتبين له أن خيارات الحزب محدودة. ومعناه أيضاً المراوحة والتمديد للوضع الحالي على الصعد كافة: تجاذب سياسي حاد ومعطّل لسير عمل المؤسسات وتداعياته المستقبلية، وحجب المساعدات العربية والأجنبية وبينها المساعدات لإعادة الإعمار، وصعوبة الاستثمار. وقد يترتب على الخيار الثاني كذلك إمكانية إفساح المجال لتمكين «حزب الله» ليعود قادراً على مزيد من التأثير في الداخل والعودة إلى التدخل في الشؤون الإقليمية فيما يفتح على اللبنانيين أبواب جهنم.
المخارج تبدو مسدودة، ولم يعد مجدياً الاكتفاء بتشخيص الأزمة المستعصية التي أضحت اليوم واضحة: فريق أو شريحة لبنانية تأخذ البلاد برمتها عنوة كرهينة بفعل تمسكها بعقيدتها وقيمها وارتباطها العضوي بإيران وسياساتها في المنطقة، فبات لبنان المخطوف ورقة في حسابات تتجاوز حدوده والدولة العربية الوحيدة إلى جانب فلسطين في حال حرب فعلية مستمرة، عاجزاً بفعل تعنت الثنائي الشيعي عن المطالبة حتى بالعودة إلى الوضع الذي كان سائداً بين 1948 و1968 والذي سمح للبنان بالبقاء خارج الصراع العسكري مع إسرائيل، قبل أن تتحول أرضه إلى ساحة تستخدمها حركات المقاومة المتعاقبة، لتقوده في النهاية إلى المأزق الذي يعيشه اليوم.