: آخر تحديث

الهواجس التلمودية.. وحرب البقاء الوجودي

6
5
5

د. ندى أحمد جابر*

بالعودة الى الحروب السابقة التي شنتها إسرائيل على الدول المجاورة، نجد أنها امتازت بأنها سريعة وخاطفة، فعام 1967 شنت حرباً على مصر وسوريا والأردن، انتهت بعد 6 أيام. وحرب أكتوبر 1973 دامت 19 يوماً وكانت هجوماً من مصر وسوريا لاستعادة سيناء والجولان وانتهت بوقف إطلاق النار ومهدت لاتفاقيات كامب ديفيد، أما حربها على لبنان عام 1982 فالعمليات العسكرية استمرت 3 أشهر فقط وسحبت جيشها بسرعة، تاركة على الحدود جيشاً من العملاء كحزام أمني لها. وحرب لبنان الثانية 2006 توقفت بعد 34 يوماً من دون تحقيق أية أهداف جغرافية. اليوم تقترب إسرائيل في حربها على غزة من عامها الثالث دون توقف.. وباندفاع هستيري غير مسبوق يصل حد الإبادة والتجويع من دون اكتراث للرأي العام العالمي. وتتمادي أكثر بالهجوم على الضفة وسوريا ولبنان وتضغط على جيشها المُنهك بمواصلة حرب بلا أفق. فبينما اتسمت الحروب السابقة بسرعة الحسم ومحدودية الأهداف، نرى اليوم حرباً مُتعددة الجبهات مفتوحة النهايات مما يثير تساؤل المحللين، إذ يبدو أن إسرائيل لا تبحث عن إنهاء الحرب، بل استمرارها.. هل هي حرب وجودية بتهديد خارجي حقيقي يستحق هذا الجنون أم هي أداة لتأجيل المواجهة مع الانقسامات الداخلية المُتفاقمة؟ وهل يمكن قراءة هذه الحروب كترجمة حيّة لنظرية «الحرب الإلهية» في العلوم السياسية. إسرائيل مع اقترابها من عقدها الثمانين بدأت تخشى الانقسام الداخلي، فهو الخطر الوجودي المُؤجل. من الواضح أن الانقسام السياسي والاجتماعي في إسرائيل بلغ ذروته في السنوات الأخيرة، الانقسام بين اليمين الحاكم المُتطرف واليسار العلماني المُعارض والجدل حول هوية الدولة، والصِراع على شكل القضاء وتآكل الثقة بالمؤسسات العسكرية، كل ذلك خلق أزمة شرعية حادة تهدد بالتفكك الداخلي الذي يُرعب المتدينين الحاكمين أكثر من غيرهم، كونهم الأكثر إيماناً وثقة بأن لعنة الثمانين لابد آتية ولا سبيل لتلافيها سوى باختراع عدو خارجي وتمدد جغرافي، فاللعنة التي تحدث عنها كل من إيهود باراك ونتنياهو وحذروا منها جاءت من العدو الداخلي، وليس من عدو خارجي، جاءت من التفكك والانقسام. في الوعي الجمعي الإسرائيلي يلوح شبح اللعنة، وهي هاجس تلمودي تاريخي يقول إن الدول اليهودية السابقة لم تُعمِر أكثر من ثمانين عاماً، وانهارت بسبب الانقسامات الداخلية، إسرائيل اليوم تقترب من عامها الثمانين (2028) وتواجه أزمات داخلية تهدد مصيرها، ما يعزز الشعور بأن الوقت ينفد، في كتاب (الحرب الإلهية) تذكر الكاتبة (Amy Oakes) بأن الحروب الإلهية سلوك تلجأ إليه الحكومات المُحاصرة بأزمات داخلية لإشعال نزاعات خارجية تحوّل انتباه الشعوب وتجبرها على الالتفاف حول القيادة. أوضح الباحثون أن الأزمات الخارجية يمكن أن تعزز تماسك الشعب لكنها ليست علاجاً للانقسامات العميقة، قد تشتري وقتاً إضافياً لكن طول أمد الصراع يعيد فتح الجروح بأشد مما كانت عليه، في السابق كانت الحروب الإسرائيلية السريعة تهدف إلى تحقيق هدف واحد.. ضربات خاطفة تفرض وقائع جديدة وتتلافى دوامة الاستنزاف، لكن الحروب الأخيرة تتسم بعكس ذلك، هي امتداد زمني طويل بلا سقف ولا نهاية واضحة، واستهتار غير مسبوق باستخدام القوة المُفرطة والاستعداد لتقبل خسائر في الجنود والاقتصاد وقبول كل تلك التكاليف المُرهقة في ظل غياب تصور واضح للحسم وكأن الهدف ليس إنهاء الحرب، بل إبقاء المجتمع في حالة استنفار. هذا التحول يوحي بأن الهدف يتجاوز تحقيق «نصر عسكري» إلى إعادة إنتاج سردية قومية توحّد المجتمع المُتفكك وهذا ما ذُكر في كتاب «الحرب الإلهية» حيث تُؤمِّن الحرب حلاً مغرياً لحكومة تواجه أزمة شرعية عميقة، فهي تُحّول النقاش العام من قضايا الانقسام الداخلي إلى «معركة البقاء» ضد عدو خارجي، ومن ناحية أخرى تستحضر الشعور الوجودي بالخطر لتخفف من الصراعات الداخلية وتعيد ترتيب الأولويات بحيث تصبح «الوحدة الوطنية» أكثر إلحاحاً من الخلافات الأيدولوجية، لكن هذا النهج كما يقول جيرمي بلاك في كتابه «تاريخ حرب قصيرة» لا يعالج الانقسام، بل يؤجله وكلما طال أمد الحرب ارتفع خطر ارتدادها على الداخل، قد تمنح الحرب الحالية شعوراً مؤقتاً بالوحدة لكنها لا تعالج جذور الانقسام البنيوي. فالديموغرافيا المتغيرة، التفاوت الاقتصادي والصراع على هوية الدولة ستبقى قنابل موقوتة، الحرب قد تؤجل لحظة الانفجار لكنها لا تلغيها.. بل ربما تسهم في تعجيلها وترى بعض الأوساط المُتشددة في التمدد الجغرافي (ممر داوود) محاولة للهروب إلى الماضي لتأجيل مواجهة المستقبل، لكن التوسع لن يُحيي مملكة داوود، فالمجتمع المُنقسم بين تياراته الدينية والاثنية سيضاف إليه سكاناً معادين ما يُعمِق الأزمات، علماً أن مملكة داوود رغم توسعها انهارت في عقدها الثمانين، الحقيقة هنا أن ما يراد له تأجيل التفكك قد يصبح عاملاً في تسريعه. «الوحدة الداخلية» التي يستعد اليمين المتطرف لدفع كل التكاليف الباهظة في محاولة لتلافي هاجس تفككها المُهدِد بزوال الدولة (بحسب نبوءتهم التاريخية). هذه «الوحدة» التي تقوم على أشلاء الضحايا الأبرياء وعلى انهيار سمعة الدولة إنسانياً في العالم، هي وحدة مصطنعة ومؤقتة. السؤال: إلى متى ستبقى الهواجس التلمودية تؤجج حروب البقاء الوجودي المتأرجح خوفاً من التاريخ.. والمستقبل؟

* كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد