: آخر تحديث

النيجر واستحقاقات السيادة في زمن التحولات الصعبة

5
5
5

المتغيرات التي تطول منطقة الساحل الأفريقي متسارعة، بحيث تغيب أحياناً عن عين الراصد والمتابع، وتتوالى بوتيرة تجعل القراءة المتأنية للمشهد ضرورة أكثر من كونها خياراً. لكن الخطوة التي اتخذتها السلطات العسكرية الجديدة في النيجر بتأميم شركتي SOMAÏR للتعدين وNIGELEC للطاقة، فتحت باباً واسعاً للتأمل، وطرحت السؤال الجوهري: إلى أين يتجه هذا البلد الواقع في قلب الساحل، والذي يختزن ثروات استراتيجية، ويواجه في الآن ذاته اختناقات اقتصادية وأمنية متزايدة؟ هل كان قرار التأميم تعبيراً حقيقياً عن استرداد للسيادة الوطنية؟ أم أنه انعكاس لأزمة داخلية تُدار بشعارات كبرى في محاولة لتأجيل المواجهة مع تعقيدات الواقع؟ من الطبيعي أن تلجأ سلطة انتقالية خرجت من رحم انقلاب عسكري إلى قرارات ذات طابع رمزي، تعزز من مشروعيتها الداخلية وتعيد تشكيل علاقتها مع الخارج. وكان من المنتظر أن تكون إعادة النظر في بعض العقود الدولية، واستعادة السيطرة على الموارد الاستراتيجية، جزءاً من هذا التوجه. لكن قرار تأميم شركتين بهذا الحجم وبهذا التوقيت، وبهذا الأسلوب الأحادي، يطرح علامات استفهام أكبر مما يقدم من إجابات.

القرار لا يمكن عزله عن السياق الإقليمي المتوتر، حيث تتبنى سلطات انتقالية جديدة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر خطاباً سيادياً حاداً، يقوم على القطيعة مع فرنسا، واستعادة ما يوصف بـ«الكرامة الوطنية» كمدخل لتثبيت الشرعية الداخلية. ومما لا شك فيه أن للنيجر، مثل جيرانها، ذاكرة استعمارية نازفة وتجارب اقتصادية غير متكافئة مع الشركاء الأجانب، خصوصاً فرنسا. لذا، فإن مساعي استعادة التحكم في الثروات الوطنية مثل اليورانيوم أو الكهرباء، تحمل في جوهرها بعداً شعبياً وسياسياً مفهوماً.

لكن المشكلة لا تكمن في النوايا، بل في الوسائل، وفي القدرة على إدارة هذا النوع من التحولات دون الانزلاق إلى مواجهات قانونية أو مالية قد تكون لها تبعات ثقيلة. قرار تأميم شركة مثل SOMAÏR، التي تملك فيها شركة Orano الفرنسية حصة رئيسية، من دون إشعار أو تعويض، يُدخل الدولة في منطقة رمادية قانونياً، ويعرضها لمواجهة أمام هيئات التحكيم الدولية بحكم المعاهدات الموقعة لحماية الاستثمار.

والأمر لا يختلف بالنسبة لشركة NIGELEC، التي تشكل العمود الفقري لقطاع الطاقة في البلاد. وحتى الصين، الشريك الدولي الذي التزم الصمت طيلة الأشهر التي أعقبت الانقلاب، بدأت تلوّح بعدم رضاها، بعد تصاعد الخلافات مع شركتها النفطية CNPC، العاملة في مشروع أنابيب التصدير إلى ميناء كوتونو في بنين.

الرهان على السيادة وحدها، كعنوان وحيد للمرحلة، من دون تهيئة بيئة قانونية ومالية وإدارية قادرة على استيعاب هذه التحولات، قد يتحول إلى عبء. فالشعارات، رغم قدرتها على حشد الدعم الشعبي في المدى القصير، لا تكفي لتأمين الرواتب، ولا لضمان استمرارية الخدمات، ولا لتفادي تداعيات مالية وقضائية قد تمتد لسنوات.

وهنا تبرز تجربة Africard Co. Ltd التي لا تزال حاضرة في ذاكرة المؤسسات المالية والقانونية الدولية. ففي عام 2016، خسرَت النيجر قضية تحكيم أمام هذه الشركة البريطانية الصغيرة، بسبب فسخ عقد لطباعة جوازات السفر، وانتهت القضية بقرار يُلزم الدولة بدفع أكثر من 46 مليون دولار، مع السماح بالحجز على أصول دبلوماسية تابعة للنيجر في الولايات المتحدة. هذه السابقة، التي بدأت بنزاع على عقد لا يتجاوز بضعة ملايين، تقدم اليوم نموذجاً لما يمكن أن يحدث حين تُتخذ القرارات خارج الأطر القانونية المتعارف عليها دولياً.

في خلفية المشهد، يقف شعب ينتظر أكثر من مجرد رمزية السيادة. ينتظر كهرباء لا تنقطع، ومياهاً نظيفة، ومراكز صحية تعمل، وتعليماً يليق بأطفاله. كل هذه التطلعات لا يمكن تلبيتها إلا من خلال إدارة رشيدة للموارد، ومناخ استثماري آمن، وقدرة تفاوضية تحفظ كرامة الدولة من دون أن تعزلها عن النظام الاقتصادي الدولي.

ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن العلاقة بين النيجر وفرنسا تمر بأزمة ثقة عميقة. فالطريقة التي تعاملت بها باريس مع الانقلاب، ورفضها الاعتراف بالسلطات الجديدة، وسعيها لتأليب دول الجوار ضد نيامي، ساهم في مفاقمة التوتر. هذا التصعيد الفرنسي لم يدفع المجلس العسكري للتراجع، بل حفّزه على اتخاذ خطوات أكثر جرأة، ربما على أمل إعادة رسم المعادلة بالكامل.

لكن فرنسا، رغم نفوذها التاريخي، لم تعد اللاعب الوحيد في المنطقة. واليوم، تدرك دول الساحل أن العالم أوسع من باريس، لكنها في المقابل مطالبة بأن تدير هذه الانفتاحات الجديدة بعقلانية، تحفظ مكانتها ولا ترهق إمكانياتها.

ربما ما تحتاج إليه النيجر الآن ليس تأميماً متسرعاً، بل إصلاح هادئ. ليس مواجهة مفتوحة، بل تفاوض متكافئ يعيد التوازن ويصون المصالح. وربما يكون على السلطات الانتقالية أن تصغي لأصوات عاقلة من الداخل، تطالب بأن تكون القطيعة مع الاستعمار السابق خطوة مدروسة، لا انفعالاً لحظياً، وأن تُؤخذ مصالح الشعب بالحسبان، لا أن يُستخدم كغطاء لقرارات محفوفة بالمخاطر.

في عالم متشابك المصالح، لا تتحدد السيادة فقط برفع الشعارات، بل بالقدرة على التفاوض من موقع القوة، وبالاستثمار في الثقة، وببناء مؤسسات تُمكّن الدولة من التحكم في مقدراتها، دون الحاجة إلى خوض معارك خاسرة.

النيجر بلد غني بثرواته، شابٌّ بأحلامه، لكنه محاصر بجغرافيته، محكوم بأن يزن خطواته بدقة؛ لأن الخطأ، ولو كان عن حسن نية، مكلف في ميزان الدول.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد