الكثير من المدن توصف بأوصاف ذات علاقة إما بدفء طقسها، أو جمال بحرها، أو ما اشتهرت به من صناعات أو زراعات... إلخ. مدينة نيويورك الأميركية، استناداً إلى مصادر تاريخية، وُصفت في عشرينات القرن الماضي بـ«التفاحة الكبيرة» بسبب ما كانت تقدمه من جوائز مالية كبيرة في سباقات الخيل. وتمَّ تبنّي الاسم رسمياً في عام 1971 لجذب السياح.
مدينة نيويورك، مقرّ لأكبر بورصة مالية في العالم. أسعار العُملات مقابل الدولار، وأسهم الشركات، وأسعار المواد والبضائع والسلع... تقرَّر في «وول ستريت». وهذا ما جعلها مركز السوق الرأسمالية العالمية. ولهذا السبب، استأثرت المدينة مؤخراً باهتمام وسائل الإعلام الأميركية والدولية. الاهتمام الإعلامي بنيويورك ليس جديداً ولا غريباً؛ فهي مدينة لا تغيب عن اهتمام وسائل الإعلام لكثرة ما يحدث فيها من وقائع، وما يستجد فيها من أحداث.
الاهتمام الإعلامي الحالي بالمدينة، هذه الأيام، سياسي الطابع، يتمحور حول مترشح ديمقراطي غير معروف لمنصب عمادة المدينة. وهو صغير السنّ، لا يتجاوز عمره 33 عاماً، من أصول آسيوية (هندية)، ومسلم الديانة، واشتراكي. وتمكن في الانتخابات الأولية للحزب الديمقراطي لمنصب عمادة مدينة نيويورك من هزيمة مترشح مشهور اسمه أندرو كومو سبق له تولي منصب عمادة المدينة من عام 2011 حتى عام 2021. ويهيئ نفسه حالياً للفوز بالانتخابات النهائية في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
وأن يحدث كل ذلك في مدينة الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب، وبعد شهور قليلة من تسنّمه منصب الرئيس للمرّة الثانية، وتحت سمعه وبصره، فتلك أعجوبة الأعاجيب. الرئيس الأميركي ترمب وصفه بأنّه شيوعي مجنون مائة في المائة. وكبار الشخصيات المعروفة في دنيا المال والأعمال بالمدينة تعهّدوا بأنّهم سيدعمون مالياً حملات أي مترشح آخر لمنعه من الوصول إلى عمادة المدينة.
المترشح الشاب اسمه زهران ممداني. طلق اللسان ولبق. لكنّه اشتراكي الفكر والنزعة والتوجّه، ويريد أن يكون عميداً لمدينة لا مكان ولا مستقبل بها لاشتراكية ولا لاشتراكيين، بل تعلمت أن تناصبهم الكراهية حدّ العداء. فكيف نفذ زهران ممداني من الشبكة المُحكمة، وظهر بارزاً على السطح محمولاً على أكتاف ناخبين نيويوركيين؟
وسائل الإعلام الأميركية والغربية هذه الأيام، لا حديث لها إلا عن ذلك المهاجر الآسيوي المسلم المناوئ لإسرائيل، والذي تعهّد، في حالة توليه منصب العمادة، بالقبض على رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وتسليمه للعدالة إذا زار المدينة!
الجالية اليهودية في نيويورك كبيرة العدد، وعظيمة التأثير، وموالية لإسرائيل. وظهور مترشح آسيوي مسلم مناوئ لإسرائيل وسياساتها في نيويورك ليس طعاماً يسهل عليها مضغه، فما بالك ببلعه؟! والتقارير الإعلامية تختلف وتتضارب في قراءتها للحدث وتداعياته. نجاح ممداني في لفت الأنظار وإثارة الاهتمام نجم عن جرأته وصراحته ونشاطه، وبما قدمه من حلول لكثير من المشاكل المستعصية بالمدينة، مثل تعهّده بتجميد إيجارات العقارات السكنية، وتوفير الرعاية مجاناً للأطفال، وغير ذلك. لكن تحويل التعهّدات بالخدمات المجانية لسكان المدينة من المعوزين إلى واقع معيش يتطلب أموالاً ليست متوفرة بخزائن الولاية، ويتطلب منه فرض ضرائب على المقتدرين، وهذا تحديداً ما أثار ضده رجال المال والأعمال.
الأمر الآخر والداعي إلى القلق هو خوف قيادات الحزب الديمقراطي من التيار المعتدل من تأثير ممداني سلبياً على نتائج الانتخابات المقبلة في العام القادم لمجلسَي النواب والشيوخ (كل مقاعد مجلس النواب وثلث مقاعد مجلس الشيوخ)، وعلى الأرجح أن رجال المال والأعمال وقادة الحزب الديمقراطي المعتدلين سيدفعون بالمترشح أندرو كومو إلى الترشح مجدداً، بصفة مترشح مستقل، لإبعاد ممداني.
تبقى مهمّة الإشارة إلى أن زهران ممداني ليس سوى حالة من حالات عدة برزت في الحزب الديمقراطي مؤخراً، وتتمثل في شباب من كوادر الحزب قرروا تحدي القيادات القديمة في الحزب من كبار السن من أمثال نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب سابقاً، بمنافستهم في الانتخابات الأولية المقبلة بإعلان ترشحهم ضدهم.