منذ أن انفجرت تداعيات ما عُرف "بالفوضى الخلاقة" بعد عام 2003، ثم تصاعدت موجاتها مع "الربيع العربي" بعد 2011، دخلت النخبة الفكرية في العالم العربي مرحلة انكشاف خطير، ليس فقط على مستوى المضمون بل على مستوى الوظيفة . فما كان يُفترض أن يكون حراكًا نحو الاستقلال الفكري والنقد المهني ، تحوّل في كثير من البيئات إلى انقسام داخلي يعكس ارتدادات الخارج ، لا نبض الداخل . تفكّكت المرجعيات المشتركة، وانهارت منظومة المعايير الموضوعية، وغابت الحيادية لصالح ولاءات أيديولوجية وطائفية أو تبعيات مموّلة .
لقد كان يُنتظر من المفكر أن يكون الضمير الحي في لحظة الفوضى، لكن ما حدث أن جزءًا كبيرًا من النخبة أعاد التموضع داخل اصطفافات مسبقة ، أو انخرط في مشاريع إعلامية وسياسية أستُخدمت لتأزيم الواقع لا لفهمه أو إصلاحه. لم تعد الاستقلالية الفكرية فضيلة، بل أصبحت تهمة. ولم يعد المعيار هو المنهج والتحليل، بل الانتماء إلى معسكر ما، أو التعبير عن سردية تروّجها جهة خارجية. هذا الانحراف في وظيفة المفكر لم يكن نابعًا من تحوّل ذاتي فقط، بل جاء في سياق إعادة هندسة الوعي عبر تمويل مراكز بحث، وتضخيم أصوات، وتهميش كل من يرفض الاصطفاف أو يحتفظ بمسافة نقدية من الجميع .
في البيئات التي ضُربت بالفوضى، لم يكن الانقسام الفكري ناتجًا عن نضج في التعدّد، بل نتيجة تفكيك مقصود لبنية الوعي، واستدعاء الطائفية كأداة للصراع لا كهُوية للتعبير. استُعيدت الهويات الجزئية لتصبح مرجعية الفكر، لا إطارًا للعيش المشترك، فتحوّلت الطائفة إلى منبر، والانتماء الفرعي إلى مدخل لتحليل السياسة. في ظل هذا المسار، لم يعد صوت الفكرة يسمع، بل صوت الغريزة، ولم يعد المفكر يقود الجماعة، بل تحوّل إلى صدًى لها، أو متحدث بإسمها .
ما عمّق الأزمة أكثر هو غياب معيار موضوعي لتقييم الطرح الفكري. فالمفكر الذي يتبنّى خطابًا عابرًا للطوائف قد يُتهم بالخيانة، ومن يحتفظ بموقف مستقل قد يُهمش ، بينما يُضخّم من ينتمي لمعادلات التمويل والإعلام أو يوظّف خطابه لتبرير الانقسام. هكذا تم إفراغ الحقل الفكري من دوره البنّاء، واستُبدلت الثقة بالارتياب، وغابت النخبة الحقيقية خلف ضجيج الولاءات.
والأخطر من ذلك، ما بات يُمارسه بعض من يصنّفون أنفسهم مفكرين أو مثقفين، وهم في الحقيقة يؤدّون وظيفة ناعمة في تمرير مشاريع عدائية ضد دولهم أو ضد دول عربية أخرى، تحت غطاء الخطاب الحقوقي أو الدعوة للإصلاح. يتموضع هؤلاء ضمن شبكات إعلامية وفكرية ممولة، ويظهرون بمظهر النقد البنّاء، بينما يقومون فعليًا بـ”شرعنة” الاختراق وتبرير التدخل الخارجي، بل أحيانًا يُنتجون سرديات تخدم أعداء الدول العربية أكثر مما تخدم شعوبها. وقد يصل الأمر ببعضهم إلى الترويج لسيناريوهات عبثية "تُمكّن قوى إقليمية بتنسيق مزعوم مع قوى كبرى" من استهداف أقدس بقاع المسلمين، في محاولة مريبة لخلق مناخ من التشكيك، والانهيار الرمزي، وهدم الثوابت. هذه ليست ممارسة فكرية، بل اختراق ناعم للوعي، يستبدل دور المثقف كصانع للمعنى بدور الوكيل في حرب رمزية على الاستقرار والسيادة. والمفارقة أن هذه الأصوات تجد منابر وتُروَّج كممثلة للنخبة، بينما هي في الواقع واجهة ناعمة لمعادلة العداء بأدوات الثقافة .
هذه اللحظة ليست فقط أزمة دولة، بل أزمة عقل. وإذا كان هناك من دعوة تُطلق الآن، فهي لاستعادة وظيفة المفكر كضمير مستقل ، مفكر لا يسكن في ظل القوة، ولا يستعير لغته من الخارج، ولا يستمد قيمته من الطائفة، بل من وعيه والتزامه بمصالح أمته. فالفكر الحق لا يعيش في زمن الطوارئ، ولا يختبئ وراء الشعارات، بل يقدّم المعنى حين يضيع الاتجاه .
إن أخطر ما خلفته الفوضى ليس فقط تآكل الدولة، بل تآكل الضمير الفكري. وقد آن الأوان لاستعادة هذا الضمير، ليس بتمجيد الماضي، ولا باستيراد نظريات الخارج، بل ببناء وعي جديد ينطلق من الواقع ليصوغه، لا من الانتماء ليعيد إنتاجه. فالفكر الذي لا ينتج استقلالًا ويساهم في التحصين من الاختراق الهوياتي ، لن يصنع نهضة .