الاستثمار في التعليم هو أعظم استثمار يمكن أن تقوم به الدولة؛ عوائده أعلى بكثير من العائد على الصناعة أو السياحة أو غيرهما. التعليم المميز يعني اقتصاداً قوياً أساسه نتاج العقول وما ينشئ من شركات ناجحة، وأبحاث وتطوير وابتكار..
التعليم المميز هو قاطرتنا إلى العالم الأول، حيث القوة والرخاء والتقدم على جميع المستويات. والسؤال هو كيف نحقق ذلك؟ الكل يعلم أنه لا توجد حلول سحرية، ولا طرق مختصرة، بل طريق طويل وشاق. ومنذ بدأ التعليم في بلادنا والكل "معلمون وأولياء أمور وطلبة" يطالبون بتطويره. وقد تعثر كثيراً لأسباب كثيرة من أهمها التوجس من أي تغيير، كما كان لسيطرة المؤدلجين على المناهج آثار سلبية كثيرة. واليوم ومع برنامج تطوير القدرات الذي يرأسه ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ووجود المركز الوطني لإعداد المناهج ستكون الطريق ممهدة لإجراء التغييرات المطلوبة للتطوير دون وجود المقاومة التي عرقلت الكثير من مشاريع التطوير. تطوير التعليم مكلف وصعب، وطريقه طويل، لكن نتائجه باهرة، وعلى كل المستويات. وهذا هو ما أخذت به الدول المتقدمة، والمميزة في تعليمها، مثل سنغافورة وفنلندا والدول الإسكندنافية وغيرها. ومن أهم الخطوات لتطوير التعليم ما يأتي:
أولاً- السؤال الأهم هو: ماذا نريد من التعليم؟ نريد منه أشياء كثيرة، لكن لو ركزنا على الأهم ومن منطلق قانون بريتو 20/80 أي أننا لو ركزنا على 20 % من أهم أسباب تقدم التعليم، سنحصل على 80 % من النتائج. وهنا تأتي الأولوية لتفتيح العقول ليحل التعلم بدل التعليم، والبحث عن المعلومة بدل إعطائها للطالب، كما قال ييتس: "التعليم ليس لملء جردل، وإنما إشعال حريق". اليوم لا بديل عن تربية العقل النقدي لدى الطلبة في هذا العصر الرقمي. حين ننمي الحس النقدي لدى الطلبة نجعلهم متفاعلين مع ما يعطى لهم في الفصل وخارجه. يوظفون أدوات الشكّ والمساءلة، وطرح الأسئلة لمعرفة الحقيقة. العقل الناقد يصنع علماء ومفكرين وكتاباً ومبدعين ومبتكرين.
ثانياً- ونريد من التعليم أن يركز على بناء الإنسان صحياً وسلوكاً؛ فيركز على الصحة البدنية، من الأسنان إلى مكافحة السمنة، ومحاربة العادات المضرة، وبالأخص التدخين والمسكرات والمخدرات. وهنا أقترح أن يكون لوزارة الصحة مندوب في المركز الوطني لإعداد المناهج. العقول السليمة والأجسام القوية من أهم أسباب قوة الوطن وحمايته.
ثالثاً- نريد من التعليم أن يمارس الطالب داخل المدارس كل القيم والعادات والسلوك الذي يميزنا كدولة متقدمة، كاحترام النظام، والنظافة، واحترام البيئة، وغيرها. المملكة تقود قوة ناعمة على مستوى العالم، كما هو في الحج والعمرة، والسياحة في الداخل والخارج، ولذا يجب أن تعكس تصرفاتنا ما تحويه ثقافتنا من رقي وحسن تعامل وتسامح.
رابعاً- نريد من الطالب أن يكون طالب علم مدى الحياة، بتعويده على القراءة والكتابة، والبحث المستمر، وعدم التوقف عن العمل والعطاء ما ظل قادراً على ذلك.
خامساً- كل المطالب الأربعة السالفة الذكر لن تتحقق إلا بوجود مديري مدارس ومعلمين يؤمنون بأهمية ذلك، ويعرفون كيف السبيل إلى تطبيقها. كل تطوير لا يبدأ بالمعلم هو تطوير ناقص، فالناس أعداء ما جهلوا، وقد يسعون جاهدين لإجهاض كل تطوير ينافي ما يؤمنون به. على الوزارة أن تبدأ بهم. ومن أهم وسائل التطوير حسن اختيارهم وتدريبهم وابتعاثهم للدول المتقدمة كمجموعات يعودون لنفس المدرسة، أو روضة الأطفال، ليصبح لدينا مدارس نموذجية تحتذى. بينما ابتعاث شخص واحد من كل مدرسة لا يحقق الهدف. ومن المهم أن يعيش المبتعث أجواء المدارس في تلك الدول، وطريقة تعاملهم مع الطلبة، فليس من سمع كمن رأى. وهنا أقترح أن تسعى الوزارة إلى التوءمة مع وزارات التعليم في الدول المتقدمة لتبادل الخبرات، واستقبال المعلمين والمعلمات وإدخالهم مدارسهم للتعرف على أفضل الممارسات، ونقلها لمدارس المملكة.
سادساً- الطالب يجب أن يكون محور العملية التعليمية، وأن يكون مشاركاً، وليس متلقياً فقط. وأن يركز على التعلم عن طريق اللعب، وأن يمارس الأنشطة التي تنمي لديه مهارات القيادة والتواصل، كالكشافة والمسرح، وتدريس الفنون المختلفة.
سابعاً- أولياء الأمور هم الشريك المهم للوصول إلى التعليم المميز. التواصل بين المدرسة والبيت يجعل البيت مكملاً ومعيناً لرسالة المدرسة.
ثامناً- الاستثمار في التعليم هو أعظم استثمار يمكن أن تقوم به الدولة؛ عوائده أعلى بكثير من العائد على الصناعة أو السياحة أو غيرهما. التعليم المميز يعني اقتصاداً قوياً أساسه نتاج العقول وما ينشئ من شركات ناجحة، وأبحاث وتطوير وابتكار. ويعني وجود قادة وأطباء وعلماء ومهندسين وأستاتذة مميزين، وبناء جيش قوي أهم ما فيه العنصر البشري. ويعني تنشئة مواطن صالح يتمتع بالفكر الناقد والصحة العقلية والبدنية. وهو الاستثمار الوحيد الذي يتضاعف مردوده عشر مرات خلال سنوات قليلة. وكل الدول التي رفعت مستوى دخل الفرد، وحققت الرخاء وجودة الحياة، حققته من خلال بوابة التعليم المميز. ومن هنا يجب أن نهتم بعدد الطلبة في الفصل الواحد فلا يتجاوز العدد 24 طالباً، وأن يكون المبنى المدرسي مهيأ لكل الأنشطة الثقافية والرياضية والفنية، وتزرع بداخله وفي محيطه الأشجار للمزيد من الصحة والراحة النفسية.