في عالم لم يعد يدار بالحروب الكلاسيكية، تبدو الضربات الجوية وسيلة لتعديل خرائط الاستثمار أكثر من كونها عسكرية بحتة وفي الهجمة الأخيرة للولايات المتحدة على إيران، كان تركيز الإعلام على السلاح النووي، حيث يؤكد البعض أن إيران خطت خطوات كبيرة باتجاه تصنيع القنبلة الذرية، بينما استمرت إيران بالنفي والدعوة إلى تفتيش منشآتها النووية للتأكد من أنها تُستعمل في الأغراض السلمية.
ولكن بعيداً عن هذا الهدف المُعلن.. هناك أهداف أخرى مَخفية برزت بوضوح خلال تصريحات الرئيس الأمريكي منذ اليوم الأول من ولايته وهو الدعوة إلى كبح التمدد الاقتصادي الصيني، هذا يقودنا إلى حقيقة أن الصرعات الحالية التي أدخلت المنطقة في دائرة الخطر، قد لا تكون حكاية السلاح النووي التي مَللنا تِكرارها من دون وجود أدلة، الحكاية قد تكون اقتصادية في ثيابٍ عسكرية. هذه الضربة الجديدة التي قامت بها أمريكا تحت عنوان قديم، يدفع المحليين إلى البحث عن الأسباب الخفية، فالضربات الجوية والعقوبات والحصار لا تستخدم لحماية إسرائيل أو لردع النووي، بل هي رسائل استراتيجية للصين.
في المقابل تصمت الصين، فهي تدرك أن تمددها في الشرق الأوسط يمّر عبر حقل ألغام سياسي وأمني يديره خصم يهمه أن يشعل الحرائق على طريق الحرير الجديد والمعروف «بطريق الحزام»، الصين هي الخصم الصامت في هذه المعركة والميدان ليس طهران، بل كل طريق يؤدي إلى الشرق. السؤال الذي يبرز اليوم هل الضربات الأخيرة مجرد ردع نووي أم أنها أداة لضرب البنية التحتية لمشروع الصين التنموي في المنطقة؟ فمبادرة «الحزام والطريق» تبدو عند الغرب كأنها تسعى لإعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي بعيداً عن الهيمنة الغربية. ولتتضح الصورة أكثر نعود للبداية.. بداية طريق الحرير؟
منذ آلاف السنين كان طريق الحرير شرياناً حضارياً نابضاً يربط بين الصين وبلاد فارس والشام ومصر وأوروبا، لم تكن القوافل التي تسير على رماله تنقل الحرير فقط، بل الأفكار واللغات والثقافات والتجارة. واليوم في القرن الواحد والعشرين، تحاول الصين إحياء هذا الطريق ولكن بلغة جديدة.. مشاريع بنية تحتية عملاقة وموانئ وطرق وكابلات ومراكز بيانات في ما يعرف ب«مبادرة الحزام والطريق»، لكن هذا المشروع الذي يربط الشرق بالغرب لا يسير في فراغ. إنه يتقاطع مع صراعات كبرى ومصالح دولية أبرزها: الولايات المتحدة، وإسرائيل والتحولات في الشرق الأوسط، فهل أصبحت الحروب في المنطقة أداة غير مُعلنة لتعطيل هذا الطريق؟
ظهر طريق الحرير القديم في القرن الثاني قبل الميلاد، بفضل التجارة بين أسرة (هان) الصينية ودول آسيا الوسطى وامتد الطريق عبر بلاد فارس والعراق والشام ثم إلى البحر الأبيض المتوسط وصولاً إلى أوروبا، لكن الطريق القديم انكسر مع انهيار الإمبراطوريات والتغيرات الجغرافية واحتكار الطرق البحرية من قبل أوروبا.
في العام 2013 أعاد الرئيس الصيني شي جين بينغ إطلاق الفكرة لكن تحت مسمى جديد (BRI) (الحزام الاقتصادي لطريق الحرير) كان الهدف ربط الصين بالعالم عبر شركات نقل حديثة وإنشاء موانئ وسكك حديدية وطرق برية، انضمت أكثر من 150 دولة للمبادرة، بينها دول عربية وأفريقية وأوروبية وتم ضخ أكثر من 1000 مليار دولار في مشاريع كثيرة في عدة بلدان، لكن بالتوازي مع صعود المشروع الصيني نشهد تصاعداً لافتاً في الاضطرابات والحروب في مناطق المِفصل الجغرافي للمبادرة: لا بد من التوقف عند إيران فهي هنا عقدة استراتيجية في قلب الطريق. حيث تشكل المَعبر البري المثالي بين الصين وبلاد الشام والمتوسط، يذكر أن إيران وقعت اتفاقية شراكة استراتيجية مع بكين عام 2021 بقيمة 400 مليار دولار وهكذا دخلت الصين بعمق في مجالات الطاقة والمواصلات والأمن السيبراني الإيراني، هذا التقارب لم يعجب واشنطن فبدأت مرحلة «ردع ناعم» تستخدم فيها إيران كورقة مواجهة تكتيكية تخفي وراءها صراعاً أوسع، لذلك وجد أكثر المراقبين أن زعزعة الاستقرار في المنطقة يهدف إلى كبح التمدد الاقتصادي الصيني وتحويل مسارات الحزام إلى مناطق غير آمنة.
يحتاج طريق الحرير الجديد إلى بيئة آمنة مُستقرة واتفاقيات طويلة الأمد، وضمانات قانونية، لكن عندما تتصاعد الحروب وتنتشر الضربات ويُهدد مضيق هرمز أو البحر الأحمر، تصبح بيئة «الحزام» غير جاذبة وتخسر الصين الثقة في إنفاق المليارات في ممرات تهددها الطائرات والصواريخ، إن تقويض دور المنطقة كرمز عبور أساسي يصب في مصلحة عرقلة طريق الحرير، إن ضرب المنشآت الإيرانية وخنق أمنها الداخلي لا يعطل فقط برامجها النووية، بل يعطل أحلام الصين بمد سكك الحديد والطاقة من شنغهاي إلى شواطئ سوريا ولبنان.. وتقويض حلم الصين بالتعاون الاقتصادي مع دول المنطقة كلها.
وفي ذلك ذكر الكاتب بيتر فرانكوبان في كتابة «طرق الحرير.. تاريخ آخر العالم» أن الصين تسعى إلى إعادة تشكيل الجغرافيا الاقتصادية والسياسية للعالم من خلال إحياء طريق الحرير القديم. وفي الكتاب يحذر ضمنياً من التراجع وفقدان التأثير الغربي لصالح الصين، إذن الضربة الأمريكية الأخيرة على إيران تجاوزت الأهداف المُعلنة.. فالتدمير هنا لا يهدف إلى تدمير منشآت نووية فقط، بل إلى تدمير الحرير الواعد على الطريق الجديد.
* كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية