: آخر تحديث

حلم الدولة الكردية.. جذور التاريخ وموانع الجغرافيا!

3
2
2

محمد بن عيسى الكنعان

عام 2006م التقيت في لندن بشاب كردي يعمل في (كافتيريا)، وخلال الحديث معه أثنيت على صلاح الدين الأيوبي باعتباره كرديًا - وإن كان هناك رأيًا تاريخيًا يقول إن أصله عربي - فرد مستنكرًا بما معناه: «بماذا نفعنا! حتى دولة ما عمل لنا»، فأجبته بأن صلاح الدين كان همّه في ذلك الوقت الأمة ككل.

تذكرت ذلك الحوار عندما علت أصوات كردية رافضة للاتفاق الذي تم - قبل رمضان - بين الحكومة السورية الانتقالية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) رغم الأصداء العربية الإيجابية والتأييد الشعبي السوري؛ كون الاتفاق - كما تتصور تلك الأصوات - يقضي على حلم الأكراد بدولة قومية بشكل نهائي، كما يستبعد فكرة الحكم الذاتي. لكن السؤال الحاضر هنا: هل فعلًا كان هناك حلم للأكراد بدولة قومية؟ تبدو الإجابة على بُعدين، بُعد تاريخي يشمل كل الأكراد بالمنطقة، والآخر بُعد موضوعي يتركز بقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي أعادت هذا الحلم إلى مشهد الواقع. فقوات (قسد) تعتبر تحالفًا عسكريًا تشكّل من فصائل كردية وعربية ومسيحية وسريانية عام 2015م بعد دخول الروس إلى سوريا لدعم نظام الأسد ضد الثورة السورية، وتضم في صفوفها قرابة 70 ألف مقاتل، لكن السيطرة العامة والقيادة الفعلية كانت للأكراد، من خلال قوات نخبة هي (وحدات حماية الشعب الكردية)، التي تشكلت أساسًا من حزب العمال الكردستاني (بي كي كي)، وقد بدأت سيطرة الأكراد على شمال شرق سوريا عام 2012م أي قبل ظهور تحالف (قسد)؛ حين انسحبت قوات نظام الأسد من المناطق ذات الغالبية الكردية، وسيطرت قوات (وحدات حماية الشعب الكردية)، وراحت تقاتل تنظيم (داعش) مستفيدةً من الدعم الأمريكي الذي جعل منها قوة عسكرية، ثم جاء تشكيل تحالف (قسد)، فارضًا سيطرته على مساحات واسعة في شمال شرق سوريا (ربع الأراضي السورية)، شملت معظم محافظة الرقة، وأجزاء من محافظات دير الزور، وحلب، والحسكة.

هذه القوة العسكرية في ظل قيادة وسيطرة كردية على مساحات سورية شاسعة أعادت للأكراد حلمهم التاريخي القديم، وعززت طموحهم السياسي المستقبلي في إقامة دولة كردية، خاصةً أن لهم مسيرة طويلة من النضال لأجل هذا الحلم الذي كان يتبدد كل مرة على امتداد تاريخهم في منطقة الشرق الأوسط ككل. وهنا يتجلى البُعد التاريخي في قضية الدول الكردية القومية، التي هي أساسًا وهم صنعته حركات التمرد الكردي عبر التاريخ، خلال فترات ضعف الدول التي تحتضن الشعب الكردي. ناهيك عن إشكالات تعانيها القومية الكردية عمومًا وهي غائرة في الجذور التاريخية، ويمكن تفصيلها بإيجاز لاحقًا بعد الإشارة إلى الموانع الجغرافية للدولة الكردية، وأهمها أن المجتمع أو الشعب الكردي يتوزع بشكل كبير على أربع دول هي: (إيران، وتركيا، والعراق، وسوريا)، ناهيك عن وجوده في دول أخرى مثل أذربيجان وأرمينا. أما طبيعة المناطق التي يسكنها الأكراد في هذه الدول، فهي جبلية ووعرة، تتكون من قمم عالية وسهولًا مرتفعة، وتفصل بين أجزائها مضايق وممرات ووديان عميقة؛ لهذا كان المؤرخون العرب يطلقون على أماكن وجود الأكراد بـ(إقليم الجبال). أما أصل الأكراد فحوله أكثر من رأي تاريخي، أبرزها أنهم من أصول إيرانية (هندو- أوروبية)، وهناك من يراهم شعبًا أصيلًا مثل السومريين والكلدانيين وغيرها، وهناك من يراهم آريين، وبهذا يلتقون مع الفرس بالأصل العرقي. هذا الاختلاف يعكس التباين بين الأكراد على مستوى الشكل أو اللغة، فالأكراد الشرقيون يتميزون بملامح تشبه ملامح الفرس، بينما الغربيون لون بشرتهم شقراء، أما الأكراد الشماليون فيتميزون بملامح آرية، كطول الرأس والقامة والشعر الأشقر، والجنوبيين بشرتهم سمراء، وشعرهم أسود وعيونهم بنية. والحال كذلك بالنسبة للهجات الكردية، ففيها اختلاف ظاهر بسبب تأثرهم بلغة شعوب الدول التي يعيشون فيها. أضف إلى ذلك أن المجتمع الكردي مجتمع قبلي قائم على تنظيمات عشائرية.

هذه التباينات مجتمعة أسهمت في إضعاف كل الجهود، أو المحاولات التحررية نحو الوحدة لإقامة دولة كردية، وهذا يفسر عدم ظهور اسم (كردستان) إلا في القرن الرابع عشر الميلادي من قبل المؤرخ حمد الله القزويني، رغم أنه ظهر واقعًا في القرن الثاني عشر الميلادي خلال حكم السلاجقة زمن الخلافة العباسية حين نشأ إقليم كردستان ضمن إطار دولتهم، وقد تكرر ارتباط هذا الاسم بإقليم محدد عبر التاريخ؛ فنجد أقاليم وولايات حملت اسم (كردستان) في إيران وتركيا لم تكن تمثل كل مناطق الأكراد؛ لهذا فالمتمعن بالمسيرة النضالية الكردية نحو تأسيس دولة قومية يلحظ أنها لم تكن تحت راية واحدة، أو في سياق زمني واحد، أو يجمعها تكتل جغرافي واحد، لأن المانع الجغرافي أسهم بشكل كبير في ذلك، وهذا يتضح من المحاولات الاستقلالية التي قام بها الأكراد في البلدان التي يعيشون فيها، التي بدأت زمن الخلافة العباسية؛ فقد شجع الضعف الذي دبّ بهذه الخلافة في ظهور إمارات مستقلة كإمارة بني حسنوية في ديار بكر، لكن هذا لم يستمر طويلًا فبعد سيطرة السلاجقة على الخلافة العباسية عام 1055م اخضعوا جميع الإمارات والكيانات الكردية. وعلى الرغم من عودة الأكراد إلى مسرح الأحداث بظهور الدولة الأيوبية إلا أنهم لم يستثمروا ذلك بقيام دولة كردية بسبب الطابع الجهادي.

غير أن الأكراد تمتعوا بنوع من الاستقلال الإداري في كيانات وإمارات أيام الدولة العثمانية، وبالذات زمن حربها مع الدولة الصفوية، إلا أن السلطان العثماني محمود قام عام 1826م بإعادة الإدارة العثمانية المباشرة لكل الأقاليم والإمارات، فحدث صدام بين العثمانيين والأكراد، الذين استغلوا انشغال العثمانيين بحربهم مع الروس، وأعلنوا أكثر من ثورة كثورة الشيخ عبد الله النهري، لكن تم قمعها. إلا أن فكرة الدولة القومية الكردية لم تخبو، بل تجلت في العصر الحديث بعد الحرب العالمية الأولى، فقد حاول الحزب الوطني الكردي بتركيا إقناع الحلفاء بمنح الأكراد حكمًا ذاتيًا، لكن الدستور التركي الجديد أكد وحدة الأراضي التركية، بل خرج الأكراد بعد هذه الحرب موزعين على أربع دول: (تركيا، وإيران، والعراق، وسوريا)؛ ليبدأوا بعدها مرحلة نضالية جديدة من خلال ثورات وحركات انفصالية، كحركة إسماعيل (سيمكو) عام 1924م، والشيخ فكري عام 1933م وغيرها، لكن تركيا اتبعت مع الأكراد سياسة التتريك والتهجير.

الحال مع أكراد إيران لم يكن بأحسن من إخوانهم، رغم أن الظروف كانت بصالحهم، فالروس كانوا يحتلون شمال إيران، وحكومتها المركزية ضعيفة، ما شجعهم على تشكيل أول تجمع كردي منظم عام 1942م تحول إلى (الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني)، بل قام القاضي محمد في منطقة مهاباد بإعلان (جمهورية مهاباد الكردية) على أساس حكم ذاتي وتأسيس جيش، لكن الحكومة الإيرانية قضت على هذه الجمهورية الحلم عام 1947م. وبعد سقوط الشاة وحكم الخميني طالب الأكراد بحكم ذاتي، لكن الخميني قمعه بشدة، وكثرت الانشقاقات بالحركة الكردية ففشلت في كسب الرأي العام الدولي. بالنسبة لأكراد العراق الذين يسكنون المنطقة الجبلية في الشمال العراقي - كردستان - فحالهم يبدو أفضل بـ(حكم ذاتي) في إطار الدولة العراقية، وإن كانت جهودهم قد مرّت بمنعطفات حادة، بدأت مع الحكم العثماني بظهور إمارات كردية مثل البابانية 1788م وغيرها. إلا أن العثمانيين قضوا عليها. وخلال الاحتلال البريطاني للعراق - وفق اتفاقية سايكس بيكو- بقي الأكراد ضمن الملكية العراقية، وبعد الاستقلال عام 1930م رأى الأكراد أن معاهدة الاستقلال ستقضي على حلم دولتهم، فظهرت حركة تمرد كردية بقيادة الشيخ محمود، لكن الحكومة العراقية قضت عليها، كما قضت على تمرد مصطفى البرزاني عام 1945م. وبعد سقوط الملكية اعترفت الجمهورية العراقية عام 1958م بالحقوق الوطنية للشعب الكردي، إلا أن العلاقة بينهما تدهورت فأعلن البرزاني الثورة ضد الجمهورية عام 1961م، والحال تكرر بعد حكم البعث للعراق بين التفاوض مع الأكراد وقمعهم. ورغم صدور قانون الاستقلال الذاتي لكردستان العراق عام 1974م إلا أن الأكراد رفضوه فوقعت الحرب بين الطرفين 1975م، وسيطر النظام العراقي فلم يعد للأكراد قوة، إلا أنهم عادوا إلى المشهد بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م، فتمتعت كردستان بحكم ذاتي. بالنسبة لأكراد سوريا الذين بعثوا حلمهم من جديد فقصتهم بدأت متأخرة مع الاستعمار الفرنسي لسوريا؛ حيث لم يشكلوا أية عقبة للفرنسيين فقد منحتهم المفوضية الفرنسية بعض الحقوق والامتيازات.

وفي مطلع الخمسينيات بعد استقلال سوريا شهدت الحركة الكردية السورية نشاطًا بدعم من أكراد العراق، نتج عنه تأسيس الحزب الديمقراطي الكردستاني سوريا (البارتي)، وبسبب وقوف أكراد سوريا مع عبد الكريم قاسم ضد جمال عبد الناصر خلال الوحدة بين مصر وسوريا، فقد واجهوا تضييقًا حكوميًا لم ينته إلا بعد فشل الوحدة. كما أن سقوط الحركة الكردية العراقية عام 1975م أحدث انشقاقات في النسيج الكردي السوري ما أنتج أربعة تنظيمات كردية شكلت جبهة واحدة هي (جبهة التحالف الديمقراطي الكردي)، وبحكم سياسة العصا والجزرة التي اتبعها نظام الأسد مع الأكراد فقد سمح لهذه الجبهة بدخول البرلمان السوري، وبذلك انتهت الحركة الكردية السورية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد