: آخر تحديث

عصر أزمة الديمقراطية في العالم

6
5
4

محمد الرميحي

ربما أفضل ما نشر مؤخراً نقداً للممارسة الديمقراطية هو صورة تمثال الحرية المعروف في مدخل نيويورك، حيث أظهر راسم الكاريكاتير تلك المرأة، حاملة المشعل، وهي تجر حقيبتي سفر في يديها مع تعليق يقول «والله ما أنا باقية في هذا البلد»! وذلك كناية عن هجرة تمثال الحرية من بلاد الحرية، التي كانت محط أنظار العالم.

الأرقام عن الجامعات في العالم تقول: «إن تسعاً من أفضل عشر جامعات في العالم موجودة في الولايات المتحدة، وهي أي الولايات المتحدة قبلة العالم حتى فترة متأخرة، وهي أكثر دولة مسلحة، وأكبر البلاد في العالم إنتاجاً للعلم الحديث».

ما يدور من نقاش في تلك البلاد اليوم يعبر عن أزمة مستحكمة في السلوك السياسي المحلي والدولي، وبالتالي فإن ما يحدث فيها يؤثر على العالم عاجلاً أو آجلاً.

الكثير مما تتخذه الإدارة الجديدة في الولايات المتحدة مختلف عليه داخلياً وخارجياً، والكثير من اللغط حول حتى قانونية ودستورية بعض القرارات، التي تمت حتى الآن، بل إن بعضها يناقض المصالح المؤكدة للولايات المتحدة نفسها.

كمثال فإن مطالبة الإدارة الدول المنتجة للنفط بخفض أسعاره يناقض مصالح شركات النفط في الداخل الأمريكي، إذ إن إنتاجها يعتمد كلياً على أسعار أعلى للنفط، فإن خفضت أسعار النفط خارج الولايات المتحدة أفلست تلقائياً الشركات العاملة في الداخل الأمريكي.

كل ذلك في مكان والحديث عن إفراغ غزة من سكانها بحجج واهية في مكان آخر، حيث لأول مرة تقود دولة كانت مقراً لكل الدعوات الخيرة لحقوق الإنسان، مثل حق تقرير المصير وإنشاء المؤسسات الدولية للحفاظ على الأمن العالمي، تدعو إلى تفريغ بلاد من أهلها الأصليين، ذلك ما أثار الرأي العام العالمي، وبخاصة العربي.

والحديث يدور عن اقتراح أن ينقل أهل غزة إلى مصر والأردن. الدولتان معارضتان للخطوة غير المبررة، عدا عن أن ذلك سوف يحدث فوضى سياسية في الإقليم العربي قاطبة.

إطلاق مثل تلك التصريحات غير القابلة للارتداد من إدارة محدودة الزمن بأربع سنوات لا يجب التساهل معها، ففي الأدبيات السياسية هناك ما هو معروف، من إطلاق الدخان الكثيف في موضوع ليتحول بعد ذلك إلى نار، بمعنى أن الفكرة، وإن كانت غير عقلانية ومرفوضة، بمجرد إطلاقها، فإن الحديث حولها وتغطيتها إعلامياً يجعلها ضمن أجندة ما يحكى عنه في الأوساط السياسية، وبالتالي تتحول من فكرة عجيبة ومرفوضة إلى فكرة محتملة وممكنة التنفيذ، لأن العالم قد يتقبلها.

ما يمر به العالم حالياً بمثابة فترة انتقالية في النظام العالمي، فلا النظام العالمي المعروف بقيادة الغرب في العقود الأخيرة قد مات كلياً، ولا النظام الجديد قد ولد بعد، ويبدو أن ولادته عسيرة، في هذه الفترة الصعبة والغامضة قد تحدث في العالم أحداث كبرى، على الصعيد السياسي، غير متوقعة، ومنها نقل بشر من أوطانهم إلى أوطان بديلة، فقد بدأت هذه الأفكار بهدم كل ما بني من مؤسسات دولية بعد الحرب العالمية الثانية، من منظمات للأمم المتحدة، إلى مجالس دولية متخصصة، حتى إلى مؤسسة الإنماء الاجتماعية الأمريكية والتي كانت تقدم المساعدات للدول النامية، وقد أغلقت.

وإذا كان الحذر مطلوباً في كل الأوقات إزاء النظام العالمي المتحول فإنه مطلوب بشدة في المراحل الانتقالية، التي نعيشها اليوم، وتشبه فترة ما بعد الحروب الكونية، اليقظة والاحتياط، من إعادة رسم الخرائط وتحديد مساحات الأوطان، وخلخلة ما يسمى «الأصول الفعالة» للنظام العالمي، وفتح الباب لتنمر الدول الكبيرة على الصغيرة. إننا نشهد قرب موت الديمقراطية كما عرفت منذ قرن أو يزيد.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد