علي بن محمد الرباعي
مثلما تنبت سدرة في وادٍ لا زرع فيه، نبتت (سعدى) دون أن ينتبه لنموّها المزارعون والرعاة، إلا عندما احتاجوا إلى ظلّها، وأعوزتهم ساعات النهار الطويلة لالتقاط ثمارها، وتناولها على عجل بما فيها من نوى، على أمل أن تُقيم الأَوَد، فيما يُخضّبون بأوراقها الداكنة رؤوسهم، ويبخرون بها بعد تجفيفها البيوت لطرد العفاريت.
لم تكن القرية تعرف الكثير عن سيرة حياتها، فطبيعتها الطيّبة، وروحها السخيّة، وكفها المعطاء، تلجم الفضول الساكن أفئدة الكثيرين، ممن يعشقون كشف المستور، وبخس المخاليق أشياءهم، دون إدراك أن بعض الإجابات سُقم، وكم من إجابة سؤالٍ تسببت في جرح لا يندمل، أو تنكيد حياة السائل، ولطالما كانت الأخلاق الراقية لنساء القُرى؛ ستراً للعيوب أو السلبيات؛ ومن مكارم القرويين المتعارف عليها؛ إظهار الحسن ومواراة ما عداه.
كان لمذاق وجبات نهارها وطعام ليلها، حضور في الذاكرة، فالنكهة واللذة والنظافة، تكاد تكون حكراً على مطبخها، وكان لفزعتها إنجاز وبركة، يتغنى به الواقعي، والمُبالغ في مديحه، كما أنّ لدعائها قبول، يشعر به كل من ابتهلت له بقصد، أو بضراعة عابرة وهي عائدة بقربتها على ظهرها، بعدما ملأتها بالماء الزلال، من بئر يمتد فلجها من غابة العرعر، وأدغال العُتم البرّي.
كانت القربة صغيرة الحجم؛ ولا تضيق أو تتبرم سيدة الجود من ملئها أكثر من مرة في اليوم، رغم مشقة النزول للوادي والطلوع منه، اعتقاداً منها أن لكل عابر ببابها من إنسان أو حيوان، حق الشُّرب، ولو جغمة ماء، والقِربة معلّقة بجوار الباب، وعلى رف مجاور لها، طاسة صغيرة، أو مغراف ليرتوي الظامئ دون إحراجه بنظرة أو عتب.
كانت سعدى تتعمد تعليق قربتها على وتد بجوار الباب، لتكون في متناول الطير وشبّار الخير، وتضع تحت القِربة طشت يجمع ما يتساقط من قطرات؛ وكلما لمحت العصافير (سعدى) بجوار قربتها تهبط على أطراف الإناء لتشرب، لأنها تتولى بنفسها حمايتها من القطط والدواب كي لا تفزع وتُحرم من الارتواء.
لفت انتباه الجيران، أن غيمةً تجللها بفيئها، وهي تسرح وتروح في عزّ قيظ الصيف، ولاحظوا أنها لا ترتدي كثير ملابس في الشتاء مما تقاوم به شأن بقية النساء الزمهرير؛ ورجّح بعضهم، أنها صادفت ليلة القَدْر، وسألت الله؛ أن يقيها اللاهب والشاهب، وأن يسترها من عين كل متلصص، وكيد كل متربّص فاستجاب لها.
انتبهت في إحدى ليالي العشر الأواخر من رمضان، ورأت النور، فظنّت أنه طلع النهار، وكان وقت حصاد القمح، فخرجت بمحشها، ونادت على جاراتها، وفي المسافة الوعرة بين البيت ومزرع الصرام، ظهر الذئب، وأوشك أن يقترب، فانبرت له مجموعة من الكلاب، وفتكت به، وانشغلت هي ورفيقاتها بالصرم، ولم يُدركن أنهن سرحن بالليل إلا عندما سمعن المؤذّن ينادي لصلاة الفجر.
روى بعض جيرانها، أنه لمح ما يشبه شجرة تظهر على بابها كل مساء، وتظلل سقف بيتها بعناقيد أنوار، وتمد فروعها في مساحة تتسع ليلاً وتضيق نهاراً، وأكد أنه لمحها؛ توزع أرزاً ولحماً، تحت الشجرة، على مخلوقات يرى أثرهم في الصحون، ولا يظهر منهم يد ولا فمّ ولا جسم.
ومن كراماتها التي يرويها معاصروها؛ أن كل من حاول إيذائها حاطت به النكبات، وساءت أحواله، ونالت منه عوادي الأقدار التي يعجزون عن رصد موعد قدومها، وتداعيات آثارها الفاتكة، ويظل يلازم المتطاول عليها بكلمة أو حركة أو سوء نيّة (خوف) يدفعه للحذر من الخروج أو السفر.
كان جيرانها يقسمون عليها؛ أن تدخل بيوتهم، كونها ما دخلت بيتاً إلا وحلّت فيه السكينة، فلسانها لا يفتر من ذِكْر الله، وعاطفتها جيّاشة، فما إن يشكي عليها أحد وتشعر بعجزها عن مساعدته إلا وغالبتها دموعها، فالتعاطف مع الخلق خليقة مغروسة فيها، ويعزوها البعض إلى جدّة مباركة تسمّت باسمها.
توطّدت علاقة سعدى بالطيور والكائنات، وكانت تحذّر صغارها من أذيّة هذه الأرواح الملائكية؛ وتعتقد أنّ الله يبعث ملائكة في صور مختلفة ليختبروا معادن الناس، ومنهم من ينجح، ومنهم من يُخفق، ولذا التزمت بفضيلة الإحسان، ولو باللقمة الوحيدة التي توشك أن تضعها في فمها.
كانت القِربة ليلة رحيلها، مليئة بالماء، وعندما استيقظت القرية على نبأ فاجع، ظلّ صوت القُطّار المنساب من القِربة، ينقط في الطشت؛ وصداهُ يُسمع في السماء، وعندما حلّت ساعة الظهيرة حطت العصافير في موعدها، وتحلّقت حول الطشت، إلا أنها لم تشرب، وتخشّبت على حواف صحن الماء، وأصدرت بدل التغريد (أصواتاً) أقرب للنحيب.