أزراج عمر
فور إعادة انتخابه رئيساً للبلاد لعهدة ثانية تدوم 5 سنوات، أعلن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون مبادرته الجديدة، مبرزاً فيها أنه سيشرع في المدى المنظور في إطلاق حوار وطني مع كل الطاقات الوطنية الحية، من أجل " تجسيد الديموقراطية الحقة".
ففي هذا الأسبوع، اعتبر مراقبون سياسيون جزائريون أن خطاب الرئيس تبون الذي ألقاه في أثناء أدائه اليمين الدستورية، وأعلن فيه عن مبادرة إطلاق الحوار الوطني، يتضمن نقداً مضمراً للمراحل السابقة التي لم ينجز فيها رؤساء الجزائر الذين حكموا البلاد، الديموقراطية الحقة، إنما اكتفوا برفع شعار الديموقراطية فقط، الأمر الذي أدّى إلى إنشاء تعددية حزبية عرجاء، تفتقر إلى ركائز أيديولوجية وأخلاقية وفكرية، وإلى مشاريع نهضوية مادية ورمزية محدّدة ومتمايزة المعالم، وقد نتجت من ذلك أزمات سياسية حادة عصفت بالبلاد مرّات عدة، ولا تزال بقايا كدماتها تؤثر سلباً في نسيج المجتمع الجزائري، السياسي والمدني معاً.
في الواقع، هناك قسم معتبر من المواطنين الجزائريين، على مستوى الجزائر العميقة، يرى أن الرئيس تبون محقّ في طرحه إشكالية الديموقراطية في هذا الوقت بالذات، وأنه أثار بذلك قضية مفصلية ينبغي على كافة الفعاليات المساهمة في مناقشة الأسباب الرئيسة التي عرقلت، منذ الاستقلال إلى مرحلة حكم عبد العزيز بوتفليقة، بناء أبجديات مشروع الديموقراطية، سواء على مستوى أجهزة الحكم أو على مستوى الذهنية السائدة في المجتمع ككل، علماً أن الإخفاق في إنجاز هذا النمط من الديموقراطية طوال سنوات الاستقلال هو المسؤول بشكل عام عن التداعيات التي ما فتئت تفرّخ في مفاصل الحياة الجزائرية نزعة الرأي الأوحد، وحكم الفرد الواحد، أو الشلة العازلة المصفَّحة بالجهوية أو بالعشائرية.
لكن، هناك من يرى أيضاً أن تجسيد مفهوم "الديموقراطية الحقة" في الجزائر أمر حيوي بلا أدنى شك، لكن تحقيقه في أرض الواقع وبعجالة ليس بالأمر المتاح حالياً، لأن "غرس" بذور الديموقراطية الحقيقية وتحويلها إلى سلوك فردي وجمعي عفوي وإلى ثقافة عامة، يتطلّب أولاً وقبل كل شيء بناء مجتمع الثقة وبناء رافعات النضج الاجتماعي والسياسي، عن طريق تربية الهويات الفردية والجماعية ضمن شبكة البنيات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والإعلامية والنفسية ذات المضمون الديموقراطي أولاً، ويستدعي بالتزامن تفعيل كل مكونات وعناصر هذه الكتلة على نحو يُفضي إلى تكوين أجيال تشكّل هوياتها الثقافية والأخلاقيات الديموقراطية ثانياً.
وفي سياق الموقف إزاء مبادرة الرئيس تبون لإطلاق الحوار الوطني، يعتقد بعض ممثلي المعارضة الجزائرية المعتدلة، أن نوايا رئيس البلاد في إطلاق هذا الحوار للتباحث في السبل الصحيحة المؤدية إلى الديموقراطية بعيداً من الشعارات، لا غبار عليها، لكن أحزاب الموالاة هي المشكلة، لأنها تتحرك هذه في الأيام على منوال ما فعلته في الماضي القريب في عهود الرؤساء الشاذلي بن جديد واليمين زروال وعبد العزيز بوتفليقة، بهدف الاستحواذ على الواجهة السياسية بواسطة الظهور كتشكيلة وحيدة داعمة لرئيس البلاد.
في هذا الخصوص، ترى هذه المعارضة أن وقوف أحزاب الموالاة إلى جانب مبادرة الرئيس تبون تخفي نيتها المضمرة في ركوب حصان طروادة جديد للسيطرة على "سيناريو المحاصصة" الذي يجعلها تحتكر حصة الأسد من مناصب الدولة، ومنها الوزارات والسلك الدبلوماسي وهلم جرّا.
ففي تقدير أطياف هذه المعارضة الحزبية وغير الحزبية، فإن "حزب طلائع الحرّيات" الذي رحّب في بيانه السياسي بمبادرة الرئيس تبون، لم تشمله ليشارك في الحوار الوطني كطرف ضروري ضمن المعادلة السياسية الجزائرية.
على هذا الأساس، ترى المعارضة أن تركيز "حزب طلائع الحرّيات" على مبادرة الرئيس تبون التي أبرز عناوينها الرئيسة (في خطابه لمناسبة أدائه اليمين الدستورية)، سواء "في ما يتعلق بعزمه إطلاق حوار وطني مفتوح" أو بخصوص "القيام باستشارات مع كل الطاقات الحيَّة للوطن، السياسية منها والاقتصادية والشبانية، للتخطيط للمسيرة التي ستنتهجها بلادنا لتجسيد الديموقراطية الحقة"، هو نتاج موقف براغماتي له بعد واحد لا يُعير جميع أطياف المكون السياسي الجزائري اهتماماً، رغم بعض الإشارات ذات الطابع العمومي التي ظهرت هنا وهناك في بعض تصريحات قيادات حزب طلائع الأحرار، مثل القول إن نجاح مبادرة تبون مشروطة بعوامل عدة منها، مثلاً، "حشد كل الطاقات وتجنيدها لبناء جبهة داخلية قوية تكون حصناً منيعاً في مواجهة التهديدات والتحدّيات المفروضة على بلادنا".
أما حزب "حركة البناء الوطني"، بزعامة رئيسه عبد القادر بن قرينة، الذي ساهم في الحملة الانتخابية الرئاسية التي أوصلت الرئيس تبون مجدداً إلى قصر المرادية، فقد نوّه بدوره بمضمون مبادرة تبون، كما دعا إلى "بناء ديموقراطية تشاركية" يُفترض أنها تعني في العُرف الديموقراطي إشراك فسيفساء الأحزاب والقوى الوطنية في إدارة الحكم، بهدف إقامة ما سمّاه بن قرينة "الحزام الوطني لرصّ الصف الداخلي". لكن تأويلات عدد كبير من نقاد هذا الحزب على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي، أجمعت في الغالب أن المقصود بالديموقراطية التشاركية من طرف بن قرينة هو تقاسم المناصب الحساسة في الدولة بين أحزاب الموالاة.
في هذا السياق، لاحظ مراقبون سياسيون جزائريون أن حزبي "طلائع الحرّيات" و"حركة البناء الوطني" لم يذكرا الأحزاب التي توجد خارج سرب الموالاة إطلاقاً، واكتفيا بالتركيز على ترديد مصطلح مركب استعمله الرئيس تبون مرّات عدة في خطابه الذي ألقاه في أثناء أدائه اليمين الدستورية في قصر الأمم، وهو مصطلح "الطاقات الوطنية الحية" الذي يختلف اختلافاً جوهرياً عن مصطلحات مثل "قوى أحزاب الموالاة" أو"قوى أحزاب المعارضة" أو "قوى المجتمع المدني"... وهلم جرّا.
في هذا الخصوص، بدا واضحاً أن الرئيس تبون لم يكن يريد منذ البداية أن يحشر نفسه ضمن دائرة حزبية ضيّقة، فهو قدّم نفسه ولا يزال شخصية سياسية وطنية مستقلة. وبالنظر إلى هذا، فقد أوضح كثير من المعلقين السياسيين، أن هذا الخيار بالذات هو الذي جعل نسبة معتبرة من المواطنين تضع الثقة فيه وتمنحه أصواتها، وهذا ما يدفعهم الآن إلى طرح هذا السؤال المركّب: من الذي سيدير هذا الحوار بعيداً من عادات المونولوج؟ وكيف سيُدار؟ وهل سيمهّد له بندوة حوارية وطنية يكون فيها مكان طبيعي لكافة الشخصيات الفكرية وأطياف التيارات السياسية التي ليس لها أي ارتباطات تخلّ بمبادئ أمن البلاد؟