فارس خشان
يا لسخرية الأقدار! فتَح "حزب الله" الجبهة اللبنانية لـ"مؤازرة غزة". بعد 11 شهراً، قررت الحكومة الإسرائيلية خوض حرب متدرجة ضد "حزب الله" لتزخيم نتائج حربها المستمرة في قطاع غزة. وهي بذلك، لم تعلن رسميّاً فشل "حرب المساندة" فحسب، بل حوّلتها إلى وبال على الجهة التي تسانِد أيضاً!
رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، هو صاحب وجهة النظر هذه. وقف لأسابيع طويلة ضد وجهة النظر الأخرى التي كان يحملها وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، وهي تقوم على معادلة مختلفة تماماً، وتقضي بوقف الحرب في غزة، من خلال إنجاز سريع لصفقة تحرير الأسرى، ليصار، بعد ذلك إلى نقل المجهود العسكري إلى "الجبهة الشمالية". غالانت لم يكن وحيداً. كان معه في الاتجاه نفسه رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي، والأهم وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الذي بات يربطه بنظيره الإسرائيلي "خط ساخن"، لا يتوقف عن الرنين. البيت الأبيض، وبمشورة آموس هوكشتاين الذي لديه تصور كامل عمّا يفكر به "حزب الله"، وقف مع غالانت، ليس على قاعدة نقل المجهود العسكري، بل على أساس أنّ وقف النار في غزة سيتيح انطلاق مفاوضات مع لبنان تُنهي الحاجة إلى الحرب.
صارع نتنياهو من أجل وجهة نظره. جمّد كل خطط الحرب التي وضعتها قيادة المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي. لم يوافق، لحظة واحدة، لا على نظرية غالانت، ولا على رؤية البيت الأبيض. بعد نجاح التصدي الإسرائيلي للهجوم الكبير الذي نفذه "حزب الله" في إطار الانتقام لاغتيال قائده العسكري فؤاد شكر، انتقل نتنياهو من موقع الرافض للحرب على الجبهة الشمالية إلى متحمّس لها. بات متيقناً أنّ حرب الشمال سوف تثمّر حرب الجنوب، وأنّ كلفة البقاء في دائرة الاستنزاف باتت أكبر من كلفة الحرب. لم يعد لديه، في ضوء ما توافر له من معطيات عن قدرات الجيش الإسرائيلي وعن معطيات أجهزة المخابرات، قلق من النتائج.
في هذه المرحلة، فتح نتنياهو صراعاً مع غالانت وهاليفي. عمل لإقالة الأوّل. استثمر موقفاً سابقاً لوزير دفاعه كان قد قال فيه إنّه "لم يعد موافقاً على حرب في الشمال". استثمره ضد هذا "المزعج" الذي يقيم روابط مع المعارضة، في وقت كان فريق نتنياهو يتولّى عملية دعائية تستهدف مباشرة رئيس الأركان، بحيث تمّ تسريب معلومات عن استقالة وشيكة لهاليفي من منصبه.
أعاد غالانت وهاليفي قراءة المعطيات الاستراتيجية. كانا يدققان في ما إذا كانت معارضتهما لحرب واسعة ضد "حزب الله" يمكن أن تنعكس سلباً أو إيجاباً على مستقبلهما، وتستحق التضحية بمنصبيهما. كانا يريدان التدقيق في احتمال تحقيق الحرب لأهدافها، لأنّهما والحالة هذه، سيكونان من ضحاياها. لن يتمكنا، إلّا في حالة الفشل، من استثمار رحيلهما. وبالمحصلة تبيّن لهما أنّ الحرب على "حزب الله" لا تحظى بشعبية كبيرة في إسرائيل فحسب بل لها حظوظ ضخمة في تحقيق أهدافها المعلنة والمضمرة، أيضاً.
الهدف المعلن للحرب هو إعادة السكان بأمان إلى منازلهم في الشمال. الهدف المضمر هو القضاء على أكبر قدر ممكن من قدرات "حزب الله" البشرية والعسكرية والصاروخية. لم يخطىء نتنياهو في أنّه يمكن تسويق النتائج المرتقبة في مركز القرار الأميركي، لإزالة الفيتو المرفوع ضد توسيع الحرب نحو الجبهة الشمالية. قام بعملية إغراء مقنعة. سوّق وجهة نظره التي تتحدث عن ثلاث نتائج يمكن أن تنتهي إليها "حرب الشمال":
أوّلاً، سوف تُلهي الرأي العام، بما يمكن أن تتضمنه من عمليات "غير مسبوقة"، عن غزة، الأمر الذي سيضعف حركة "حماس"، فهي سوف تجد نفسها تتكبد الخسائر من دون قدرة على استثمارها في الشارع كما في الإعلام، وهما من أقوى حلفائها على الإطلاق. "حزب الله" سوف يحجب، عفواً، الأنظار عنها. وهذا من شأنه أن يضطرها، في وقت لاحق، إلى الجلوس على طاولة المفاوضات، للموافقة على "حل معقول". ولذلك، فإنّ الحرب على الجبهة الشمالية يجب أن يتزامن مع استمرارها في غزة.
ثانياً، سوف تفهم الجمهورية الإسلامية في إيران أنّ قدرات أهم أذرعها على الإطلاق قد تلاشت، وبالتالي لم تعد قادرة على استثمار "المقاومة الإسلامية في لبنان"، في حال دخلت في صراع كبير مع إسرائيل والغرب، الأمر الذي من شأنه تعجيل نيّة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في جلوس جدي إلى طاولة المفاوضات الخاصة بالبرنامج النووي. لن يكون أمام المرشد الإيراني العجوز والمريض، سوى تجرّع "كأس السم". بالنسبة لإسرائيل، أظهر علي خامنئي قدرة على تحمّل "سمّ التهدئة"، بدليل موافقته على تجميد خطط الهجوم على إسرائيل، بعد اغتيال إسماعيل هنية، وذلك بعدما كان "الحرس الثوري" قد أنجزها. لقد مال خامنئي إلى وجهة نظر بزشكيان الهادفة الى إبعاد إيران عن الحرب لمصلحة رفع جاذبيتها الاستثمارية التي تؤهلها لإنقاذ نفسها من الجحيم الاقتصادي والمالي والاجتماعي الذي تتسع هوّته يوماً بعد يوم!
ثالثاً، إذا ساهمت واشنطن في جهود تل أبيب، فإنّ السلام الذي طالما تطلّعت إليه قد يصبح، في المستقبل القريب، بمتناول اليدين، لأنّ إعادة رسم مستقبل الشرق الأوسط تجري الآن! الوقائع الميدانية المتلاحقة منذ إعلان ضم الجبهة الشمالية الى أهداف الحرب، لم تقدم ما يشي بأنّ نتنياهو مخطئ وأنّ غالانت وهاليفي لم يحسنا تصحيح اتجاههما. حتى تاريخه، من دون الاستخفاف بما يمكن أن يخبئه المستقبل العاجل جداً، تلقى "حزب الله" ضربات نوعية وقاسية ومؤلمة، ولكنه لم يستطع أن يرد إلّا "كلاسيكيّاً"، ومن ضمن ما يندرج في قائمة توقعات الجيش الإسرائيلي. هل ينتصر نتنياهو؟ هل لدى "حزب الله" القدرة على إحداث المفاجأة؟ هل تتخلى إيران عن خطة بازشكيان السلمية وتنخرط في الحرب؟ هل يتخلى الرئيس السوري بشار الأسد عن "حياديته" الميدانية؟ هل يمكن لجبهة المقاومة في سوريا
واليمن والعراق، قلب المعادلة؟
الإجابة عن هذه الأسئلة الكثيرة والمحورية وحدها يمكن أن تشي بما إذا كانت حرب لبنان سوف تجعل نتنياهو إمّا "أضحوكة" المنطقة أو تحوّله إلى ما به يحلم منذ 11 شهراً: تشرشل الشرق الأوسط!