محمد صلاح
من البديهي الإقرار باستخدام إسرائيل أحدث تكنولوجيا توصّل إليها العالم في حروبها، لكن الانبهار بالضربات التي وجّهتها إسرائيل أخيراً إلى "حزب الله" مسألة في غير محلها. فالدولة العبرية تحظى بدعم أميركي كامل ومساندة غربية لا حدود لها، ورغم ما يبدو من أزمات مجتمعية في الداخل الاسرائيلي وانقسامات سياسية بين النخب هناك، ومعاناة الاقتصاد بفعل تداعيات الحرب، فإن ذلك المجتمع متماسك بفعل مشاعر الخوف، ومتوحّد خلف الرغبة في الانتقام، ومجمع على ضرورة الخلاص من "الأعداء" بكل الطرق وعلى كافة الأصعدة. وما يبدو من تقدّم تكنولوجي وتطور تقني وتنوع استراتيجي في اختيار أساليب التكتيك الهجومي، هو انعكاس لقدرات أميركية غربية دعمت الاقتصاد الإسرائيلي بما يمكنه من تجاوز أزماته، رغم النفقات التي قد تعصف باقتصاد دول أخرى إذا مرّت بظروف مماثلة أو حتى أخطار أقل، وعاونت في إمداد الجيش الإسرائيلي بأسلحة متقدّمة وتكنولوجيا متطورة ووسائل للرقابة والتجسس تستطيع الوصول إلى أماكن الأشخاص المستهدفين في غرف نومهم وتصويب الصواريخ عن بعد، أو قرب، لتصيب أهدافها، إضافة بالطبع إلى حماية سياسية واستراتيجية وتدعيمات سياسية وأمنية وعسكرية، غلّفت الإجرام الإسرائيلي وشرعنته وبرّرته ومكّنته من الهروب من أي عقاب.
لكن اللافت بالفعل، هو أن كل المزايا التي تحظى بها إسرائيل لم تُقابل بعمل جدّي لتطوير تقنيات وآليات وسياسات المواجهة معها من الأطراف التي اجتمعت تحت لافتة محور "الممانعة" أو المقاومة، أو قل تلك التي تجتمع تحت الرعاية الإيرانية! والتي استنزفت الكثير من الوقت والمال والجهد في محاولة إضعاف أعدائها من الأنظمة والشعوب والمجتمعات والنخب العربية، ولم تلتفت، أو قل تجاهلت عمداً، أن تلك أهداف تسعى إسرائيل أيضاً الى تحقيقها. ويكفي رصد تداعيات سلوك وأفعال وأهداف أذرع إيران من جماعات وأحزاب وميليشيات على الأرض، وكذلك عبر منصاتهم الإعلامية، لتدرك إلى أي مدى انشغلت لسنوات عن ملاحقة التكنولوجيا، حيث صبّت اهتمامها على إزاحة الحكام في دول عربية أو السيطرة على مجتمعات في دول أخرى، أو نشر الفوضى وزرع الفتن وهدم بلدان عجزت عن إسقاط حكامها، أو الوصول إلى مقاعد السلطة فيها.
يسأل الناس: أين وحدة الساحات، والمشهد يبدو كأن إيران تخلّت عن "حزب الله" وحركة "حماس"؟ ويتذكرون لهجة التحدّي ولغة القوة وعبارات الدعم والمساندة التي اعتمدها المسؤولون الإيرانيون منذ "طوفان الأقصى"، وكأن الساحات قد تشتّتت وتُرك كل فصيل أو حزب أو حركة أو ميليشيا ليواجه مصيره، أو إسرائيل، خصوصاً أن كل التطورات المتسارعة أخيراً في المنطقة كشفت إلى أي مدى فرض وجود الميليشيات تطويراً في آليات الحروب، فأماكن الجيوش وتوزيعها وثكناتها تكون عادة على الحدود أو في الأماكن الخالية بعيداً من المناطق السكنية المزدحمة، بينما عناصر الميليشيات، والأجنحة العسكرية، تختبئ بين الناس ووسط السكان وتتخفى في البيوت والمساكن والبنايات، ولا يشترط أن يرتدي عناصرها زياً موحّداً يميزهم عن الاهالي. وفي تاريخ الحروب، تسعى الدول إلى تقوية جيوشها وتطويرها وتجهيزها بمناورات وتدريبات، بينما تتدرب الميليشيات في الأدغال ووديان الجبال، وتفتقر دائماً إلى الغطاء الجوي أو وسائل الدفاع والمضادات الجوية، وتعتمد دائماً حروب العصابات التي قد تنهك الجيوش، لكن من الصعب أن تحقق الانتصارات عليها. ولذلك، معركة "حماس" في غزة ضدّ الجيش الإسرائيلي تعتمد على محاولة تشتيته واستغلال خسائره في إحداث ضغوط سياسية ومجتمعية لاقتناص مكاسب على الأرض. بينما يعتبر "حزب الله" أن معيار انتصار الجيش الإسرائيلي هو نجاحه في إعادة سكان الشمال إلى بيوتهم! وحتى تنظيم "الإخوان" الإرهابي في مصر، الذي أشعل عناصره الحرائق في أبراج ومحطات الكهرباء وفجّروا المؤسسات العامة واغتالوا المواطنين ورجال الجيش والشرطة، كان يدرك أن أنفاس الدولة أطول، وأن أسلحة الجيش والشرطة أكثر تقدّماً وفتكاً، لكنه بنى استراتيجيته على محاولة الضغط على الدولة بعمليات وجرائم، ليُظهر الحكم ضعيفاً، لعلّ الناس تنقلب عليه. والمهم أن لا "حماس" ولا "حزب الله" ولا تنظيم "الإخوان" ولا أي ميليشيا في أي بلد عربي تمكنت من تحقيق انتصار عسكري في ساحة قتال، بل إن من المؤكّد أنّ من فجّر "البيجر" و"التوكي ووكي" واغتال قادة في "حزب الله"، سواء في منازلهم أو في اثناء اجتماعهم مع عناصر الحزب، كان حصل من خلالها على معلومات مهمّة جداً، واستمع إلى حوارات وتوجيهات وأوامر وتعليمات، عكست خططاً واستراتيجيات اعتمدت على معلومات جرى الحصول عليها عن طريق اختراقات وخيانات!
الفرق بين الجيوش الوطنية والميليشيات يبدو واضحاً في القدرة على التعامل مع حروب المفاجآت، التي لا تعرف فيها كيف سيقضي عليك خصمك، لأنه يملك التكنولوجيا ويطورها، من دون أن تعرف القدر الذي وصل إليه، وتتفاجأ حين تُوجّه إليك الضربة فتشتري ما تعتقد أنه آخر ما توصل إليه العلم من أجهزة رقابة ورادارات وأسلحة ومتفجرات وصواريخ ومسيّرات، ثم تكتشف أن الصانع حين باعها لك كان قد تجاوزها وأنتج غيرها أكثر تعقيداً وتقدّماً وتطوراً، من دون أن تكتشف، لأنك مشغول بالكلام عن ماضيك وحقوقك المهدورة والأنظمة التي حاصرتك، والاستعمار الذي نهبك والأرض التي سلبها منك، وتبدأ تأكل نفسك وتفتت في عوامل قوتك وتضرب مجتمعك وتخلق كيانات وميليشيات لتحقق بها سيطرتك على نفسك، أو قل أجزاء من جسمك، وتستخدم كل الطرق وتسير في كل السبل وتستهلك كل طاقتك لتسود أفكارك، أو قل تخلّفك، وتستمر في استنزاف نفسك، ثم فجأة تجد عدوك وقد باغتك بوسائل فتك جديدة ويضربك بينما أنت منهمك في محاولة القضاء على الخلايا الحية النشطة في جسدك، حين كان ذلك العدو يساعد في سرطنتك بالفتن.
لا تخشى إسرائيل تفجّر حرب إقليمية في المنطقة، وهي تضمن الحماية الأميركية، بينما لا يملك "حزب الله" القرار بالردّ، ويكتفي بالردود التي نراها هنا وهناك. وبالتالي، صار الميزان العسكري في يد نتنياهو، وإيران مشغولة بالصفقات والاتصالات الدبلوماسية وترتيب الأوراق مع الإدارة الأميركية الحالية وترقّب الإدارات المقبلة. فلا الغارات النوعية للطيران الإسرائيلي في سوريا، أو اغتيال إسماعيل هنية في قلب طهران، أو ما يتعرّض له "حزب الله" في لبنان، جعل طهران تتخذ قراراً بالدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، أو حتى الردّ لحفظ ماء الوجه. وبالتالي، يبدو كأن "حزب الله" شعر بأنه سيُترك وحده إذا نفّذ تهديداته ودخل حرباً واسعة مع إسرائيل فأصبح في مأزق. فإذا ردّ الحزب، سيجرّ لبنان إلى كارثة. وإذا لم يردّ، أطاح كل شعاراته وأدبياته. وعلى الجانب الآخر، فإن إسرائيل مقتنعة بأن التصعيد ضدّ لبنان لن يذهب بها إلى حرب شاملة، فلا إيران ولا "حزب الله" يريدان الدخول في هذه الحرب، خصوصاً مع ضعف الردات الانتقامية التي لا يكفي "نفخ" الإعلام العربي الموالي لإيران فيها، والمبالغة في تضخيم نتائجها، لإقناع إسرائيل والولايات المتحدة وكل الدول والجهات الداعمة للدولة العبرية، بأنها يجب أن تردع إسرائيل وتجبرها على الكف عن توحّشها.