: آخر تحديث

المليشيات المركزية وغير المركزية: آليات القوة ومآلات الانهيار

8
7
7

في عالم السياسة والصراعات المسلحة، تلعب المليشيات أدواراً حاسمة تتباين بحسب بنيتها التنظيمية وآليات عملها، ويمكن تصنيف هذه الجماعات إلى نوعين رئيسيين: المليشيات المركزية، التي تعتمد على قيادة موحدة وقرارات مركزية، والمليشيات غير المركزية، التي تتميز بهياكل لامركزية تمنحها مرونة في التحرك. لكل نوع من هذه المليشيات سماته الخاصة، وأدواته في السيطرة، وانهياراته الدراماتيكية التي تحمل دروساً استراتيجية.

المليشيات المركزية تعتمد على هرمية صارمة، حيث تتجمع السلطة في يد قيادة موحدة تدير العمليات، وتحدد الأهداف، وتنسق التحركات. وأبرز الأمثلة على هذا النوع هو "الحرس الثوري الإيراني"، الذي يتمتع بهيكلية واضحة وقيادة مركزية ترتبط بشكل مباشر بالنظام السياسي في إيران، بفضل هذا التنظيم، تمكن الحرس الثوري من بسط نفوذه في العراق وسوريا واليمن ولبنان عبر وكلاء وحلفاء، حيث يدير عمليات معقدة بفعالية نسبية، لكن مركزية الحرس الثوري جعلته عرضة لضربات موجعة عند استهداف قياداته الرئيسية أو نقاط قوته الاستراتيجية. مثال على ذلك اغتيال قاسم سليماني، الذي كشف هشاشة مركزية تعتمد على رموز قيادية محددة، وأدى إلى ارتباك في إدارة عمليات خارجية لفترة طويلة.

في اليمن، تُعد مليشيات الحوثي نموذجاً بارزاً للمليشيات المركزية. الحركة الحوثية تعتمد على قيادة عليا تتمثل في عبد الملك الحوثي، حيث تُدار العمليات بقرارات مركزية صارمة. هذه المركزية منحتهم القدرة على السيطرة على مساحات من اليمن، مستفيدين من الدعم الإيراني في التدريب والتسليح. لكن مركزية الحوثيين تُظهر أيضاً نقاط ضعف قاتلة، فاعتمادهم على القيادة العليا يعني أن أي ضربة استراتيجية لهذه القيادة قد تؤدي إلى انهيار سريع. مثال على ذلك يمكن أن يكون استهداف عبد الملك الحوثي أو تضاؤل الدعم الإيراني بسبب الضغوط الإقليمية والدولية، ما سيترك الحركة في حالة من الارتباك والتفكك الداخلي. إضافةً إلى ذلك، السياسات القمعية التي تتبعها الجماعة، وتزايد النقمة الشعبية ضدها، تجعلان من انهيارها أمراً حتمياً، سواء عبر انتفاضات داخلية أو عبر تحالفات إقليمية تسعى لاستعادة اليمن.

في المقابل، تتسم المليشيات غير المركزية بالتنظيم اللامركزي، حيث تُمنح الوحدات الميدانية استقلالية نسبية في اتخاذ القرارات. من الأمثلة البارزة على هذا النوع تنظيم داعش خلال ذروة قوته. اعتمد التنظيم على لامركزية عالية، حيث كانت الخلايا المنتشرة في مناطق متعددة تعمل بشكل شبه مستقل، مما منحه مرونة استثنائية في التوسع وتنفيذ عمليات إرهابية متزامنة في مناطق جغرافية متباعدة. لكن هذه اللامركزية التي بدت كقوة في البداية أثبتت أنها نقطة ضعف رئيسية. مع بدء انهيار داعش في سوريا والعراق بفعل الضغط العسكري، تشتت قادته وعناصره بشكل عشوائي، مما أدى إلى فقدان السيطرة والتنسيق، لينتهي التنظيم كهيكل متفكك غير قادر على إعادة تشكيل نفسه.

الفرق الجوهري بين النوعين يظهر في طريقة الانهيار. المليشيات المركزية تنهار بشكل دراماتيكي عندما تُضرب قياداتها الرئيسية أو تفقد مراكزها الاستراتيجية. المثال الأكثر وضوحاً لذلك هو انهيار حزب الله في لبنان بعد استهداف قياداته، مما أفقده القدرة على إعادة تشكيل قوته. الحوثيون يواجهون مصيراً مشابهاً في حال استهداف قيادتهم أو انحسار الدعم الإقليمي الذي يعتمدون عليه بشكل كامل. أما المليشيات غير المركزية، مثل تنظيم القاعدة، فتنهار تدريجياً، حيث يؤدي فقدان التواصل والتنسيق بين الخلايا المستقلة إلى تفكك بطيء لكنه حتمي.

الأهم من ذلك أن كلاً من النوعين يواجه تحديات داخلية وخارجية تتعلق بالشرعية والاستدامة. المليشيات المركزية غالباً ما تكون مرتبطة بأنظمة سياسية أو مصالح إقليمية، مما يجعلها عرضة لتغيرات البيئة السياسية. أما المليشيات غير المركزية، فتواجه خطر تحول وحداتها المستقلة إلى مجموعات منشقة أو متمردة بسبب غياب التنسيق المركزي، مما يؤدي إلى انحراف أهدافها الأصلية.

سواء كانت المليشيات مركزية أو غير مركزية، فإن مصيرها يرتبط بقدرتها على التكيف مع الضغوط الداخلية والخارجية. مركزية القيادة قد تمنح قوة لحظية لكنها تزرع بذور الانهيار عند سقوط القيادة. أما اللامركزية فتمنح مرونة، لكنها تؤدي إلى تفكك طويل الأمد عند مواجهة تحديات أكبر من قدرتها على التنسيق. في اليمن، كما في أي مكان آخر، المليشيات التي تعتمد على العنف والقمع لن تنجح في بناء استقرار دائم، وستظل نهايتها حتمية أمام قوى التغيير والتحولات الإقليمية. كلا النموذجين يقدمان دروساً استراتيجية حاسمة لصناع القرار في فهم ديناميكيات الصراعات المسلحة ومستقبلها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف