يُعرِّف المؤرخ جاديس الاستراتيجية الكبرى للدول «بأنها مواءمة بين تطلعاتها غير المحدودة، مع قدراتها المحدودة بالضرورة». لكن مصيبة الأمم التي تتنطح لاستراتيجية تجاوزها التاريخ، تصير هزيمتها التاريخية حتمية.
ذلك أن للدول أطواراً! صعوداً أو هبوطاً أو تفككاً، بقدر توافقها أو تعارضها مع إيقاع عصرنا العاصف. فإما أن تُحَدِّث الأمة، أي أمة، روحها الحضارية في مواجهة التحديات الهائلة الماثلة، وإما أن تغرق في مسار درامي من الوهن والتداعي.
مع نهاية الحرب العالمية الأولى قَبَرَ التاريخُ، من دون رجعة، آخر الإمبراطوريات الكونية، ليمتد الخراب من بريطانيا، وألمانيا، وروسيا، والنمسا، وتركيا. وفي حينه تسببت فضلات الأوهام الإمبراطورية بكوارث كونية، إلى أن اندثرت تحت وطأة أحلامها الخائبة.
منذ القرن الماضي، تغيَّر جذرياً منطق القوة والهيمنة. وفيما يتركَّز الصراع الراهن على الإبداع والإنتاجية والرفاه، تتمكن جغرافيات صغيرة مثل هولندا واليابان وتايوان وسنغافورة إلخ... من أن تتفوق في سلم التحضر على العديد من بقايا الإمبراطوريات التليدة. لم يعد الصراع منوطاً باستعباد شعب، وتراجعت بشكل واسع أهمية الموارد الطبيعية، لتضمحل معها ذرائع الهويات والنفوذ العقائدي و«الثوري».
لكن، هذا التحول لا يزال عزيزاً على كثير من الأمم. ويُشكل المشروع الإمبراطوري الإقليمي لإيران نموذجاً لهذا الفشل، وهذا العناد الباهظ ضد مسار التاريخ.
فعلى الجسر الذي يفترض أن تعبر منه الأمة الإيرانية نحو الحداثة، يضع «الحرس الثوري» ألغامه الناسفة، ليصبح خليط الجمود العقائدي و«معاداة الإمبريالية» و«الطائفية العقائدية» و«القومية الإيرانية»، معياراً للإخلاص والصمود.
رغم أن «الحرس الثوري» لم يحقق أياً من طموحاتها «النبيلة»، فلقد حقق كثيراً من طموحاته «الأقل نبلاً». واستفاد من الانقسامات الآيديولوجية والطائفية والدينية، لينخر في جسد دول في محور البؤس، (محور المقاومة)، على حساب التضحيات الهائلة للشعب الإيراني، وحرمانه من الرفاه والتقدم.
بل صار من غير الممكن اتخاذ أي قرار كبير للأمن القومي في العراق أو لبنان من دون مباركة الميليشيات الإيرانية، رغم أنها لا تتحمل أي مسؤولية لمعالجة البطالة أو الفساد، أو حتى جمع القمامة. الميليشيات الإيرانية تحتكر القوة، بينما تخضع الدولة والحكومات وحدها للمساءلة. وباعتبارها الثيوقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، تتقن إيران إدارة التفرقة آيديولوجياً ضد الدولة الوطنية العربية. فالآيديولوجيا هي المعيار الأعلى لتحالفاتها وليس الدين.
وكل هذا بدأ منذ سعيها لتعزيز قبضتها على الحكم عبر إطالة أمد الحرب المدمرة مع العراق، ووصولاً إلى حظر لقاحات «كوفيد-19» الأميركية، فيما ينخر العناد الإمبراطوري الباهظ لنخبها الحاكمة صُلب الدولة الإيرانية ذاتها.
وإذ تبدع إيران بعنجهيتها العسكرية في تكريس قدراتها نحو تطوير برنامجها النووي، والحرب الإلكترونية، والإرهاب، وزعزعة أمن الطاقة، وإذكاء الصراعات في الإقليم، فإنها تبدو، مثل لاعب كمال الأجسام الهرِم، الذي يعاني فشلاً متعدد الأعضاء، لكنه يستمر باستعراض عضلاته أمام المرآة. فلطالما أجادت إيران استعراض العضلات، ولطالما تجنَّبت جولات المصارعة.
وهرباً من انكشافها، تتنطح إيران الآن، بقدراتها الميكروسكوبية، لقلب النظام العالمي. بذلك تتمثل الفجوة الهائلة بين تطلعات قدراتها، ما يعني استمرار استنزاف الموارد الوطنية. ليغرق الشعب الإيراني في حلقة مفرغة من الإحباط الاقتصادي والسياسي والمزيد، المزيد من القمع.
ويجري كل ذلك فيما يرفل زعماء النظام الإيراني في النعم، ليتحول شيئاً فشيئاً الولاء العقائدي فيه لولاء مافيوي محض.
لكن كل هذه الأوهام تذهب. في حقيقة الأمر، لا تراجعَ للوجود الأميركي في الخليج. وتثبتُ استطلاعات الرأي العربية، أن القلوب والعقول العربية لا تهفو نحو النهج الإيراني، بل نحو الانفتاح الاجتماعي، والتكامل عالمياً مع قوى الازدهار والتقدم.
وتحين لحظة الحقيقة! إذ وكما يقول دو توكفيل: «تحين اللحظة الأكثر خطورة بالنسبة لنظام سيئ حين يسعى لإصلاح نفسه». ومهما كابرت، فليس ثمة أمثلة في التاريخ، عن منظومة مافيوية تتحول إلى منظومة منتجة للتحضر والتقدم.
وإذ يترتب على النظام الإيراني التكيف من أجل البقاء، يكتشف أنه حتى التظاهر بالانفتاح، سيعني إنهاض القوى السياسية الهائلة الكامنة للشعب، وإضعاف هيمنته الخارجية. ليصبح الإصلاح كابوساً يهدد بنية الولاء المافيوية، لصالح القوى الحقيقية في المجتمع الإيراني.
المرة تلو الأخرى، تجهض القيادة الإيرانية موجات الإصلاح العارمة. وبدءاً من رفسنجاني إلى روحاني، وصولاً لما يتم الترويج له من صعود رئيس إصلاحي جديد، يكابر النظام الإيراني، ويرفض إصلاحياً من «أبنائه الشرعيين»، ويجبر جواد ظريف على الاستقالة.
خلاصة الأمر، لن تهزم أمريكا ولا إسرائيل الأوهام الإمبراطورية للقيادة الإسلامية الإيرانية، بل سيهزمها الشعب الإيراني، الذي يدفع الثمن الأكبر.