قرأت في الآونة الأخيرة أربع مواد صحفية تدور كلها حول آرنست همنغواي، وفي المواد الأربع، لا جديد:.. ومن قبل يعرف قارئ صاحب (العجوز والبحر) أنه عاش في باريس في الفترة من عام ١٩٥٧ وإلى ١٩٦٠، ووضع من يوميات تجربته تلك كتاباً أشبه بالمائدة الضخمة التي لم يكن يشبع منها كاتب في مثل ضخامة وشراهة هيمنغواي. أنه كتاب مائدة باريس وطعامها ومطاعمها وشهوانياتها التي كانت تستدرج صاحب نوبل إلى ما لا نهاية.. وهو إذ كان بكل هذا الاندفاع إلى الحياة، والمرأة، والكتابة والحروب والصداقات، ثم أخيراً أموال نوبل، تستغرب لماذا انتحر. وببساطة أنهى حياته في نحو الثامنة من صباح أحد الأيام: بندقية بفوّهتين وخرطوشنين ثم ضغطة واثقة على الزناد، ثم رشاش دم رأسه على الأرض.. لماذا؟ هل كان قد شبع؟.. وهل يؤدي التشبع أو الإشباع إلى الانتحار؟ ربما، غير أن هذا المصير الإرادي الدموي يلجأ إليه عادة الضعيف.. ضعيف الإرادة، وضعيف التماسك الجسدي والروحي والثقافي، وفي حالة صاحب (لمن تقرع الأجراس) يُستبعد الضعف، فهو ملاكم، ومراسل صحفي ميداني في مناطق الحروب؛ حيث لا حماية دولية للصحفي، ولا خوذة، ولا إعلام سريع يغطي جرح صغير في ذراع صحفي، كما هي الحال اليوم.لا جديد في حياة آرنست همنغواي، لكثرة ما كتب عن نسائه، وانتحاره، وسفره إلى بلدان يحبّها مثل كوبا، غير أن قارئ هذا الرجل الذي تحوّل بيته إلى مزار ثقافي ربما يتوقف عند نقطة قد تبدو ليست جديدة هي الأخرى، وهي همنغواي الصحفي الذي ولدت الكثير من أعماله الروائية من تجاربه الصحفية سواء في الحرب العالمية الثانية أو في الحرب الأسبانية، وفي كل الأحوال، كان الرجل الملتحي الذي يصلح أن يكون نجماً سينمائياً في حرب لا تتوقف مع نفسه، وربما هي النقطة الجديدة هنا:.. قراءة همنغواي قراءة نفسية، وجودية بالدرجة الأولى، قراءة من الداخل، وليست عبر السطح المرئي العلني للعالم وللنقّاد وللقراء..شيء ما غامض وغير معروف في عمق هذا الروائي الذي أعطى لأمريكا معنى ثقافياً لم تكن تحلم به، ومع ذلك لم يكن يحب أمريكا، ولم تكن أمريكا تحبه، على العكس تماماً من والت ويتمان، الذي كتب نشيداً طويلاً أعلى من قامته بكثير مديحاً في الولايات الأمريكية، وعمل في بعض حروبها، لكنه لم يكن أبداً في مثل كاريزما همنغواي.. كان ويتمان، مجرد ممّرض منشغل أبداً بأجساد الجرحى من الجنود الأمريكيين الشباب، ولم تكن في داخله نار زرقاء تكوي عظامه مثل ما كان الأمر عند همنغواي، لذلك، كان ويتمان يأكل ويشرب وينام بعمق الموتى، وبذلك، لم يكن في حاجة إلى بندقية..في وجه من وجوهه السرية، يُرى آرنست همنغواي على أنه شاعر.. ربما، وربما بسبب من هذه الشفافية الغامضة أطلق النار على رأسه..
روائي وبندقية
مواضيع ذات صلة