الصبر أنواع، وفي هذه الأنواع ما هو حميد وفيها ما هو غير حميد. لا يصحّ الصبر على الظلم بكافة أنواعه، حين يتحول هذا الصبر إلى نوع من التخدير، لإطالة أو تأبيد سكوت المظلومين على الظلم. في حالٍ كهذه لا يصح الصبر، ولكن هناك صبراً حميداً، ينمّ عن رشد عقل وبعد نظر الصابر. حين أُخذ على الإمام الشافعي صبره على نيل الخصوم منه بالكلام، قال: «قالوا سكتُّ وقد خوصمتُ، قلتُ لهم إنَّ الجوابَ لبابِ الشرِّ مفتاحُ، والصمَّتُ عن جاهلٍ أو أحمقٍ شرفُ، وفيه أيضاً لصونِ العرضِ إصلاحُ، أما تَرَى الأُسْدَ تُخْشى وهْي صَامِتة؟، والكلبُ يخسى لعمري وهو نبّاحُ».وفي سياق يتصل بالصبر، قال الإمام الشافعي أيضاً: «دَعِ الأَيَّامَ تَفْعَل مَا تَشَاءُ/ وطب نفساً إذا حكمَ القضاءُ/ وَلا تَجْزَعْ لنازلة الليالي/ فما لحوادثِ الدنيا بقاءُ/ وكنْ رجلاً على الأهوالِ جلداً/ وشيمتكَ السماحة ُوالوفاءُ/ وإنْ كثرتْ عيوبكَ في البرايا/ وسَرّكَ أَنْ يَكُونَ لَها غِطَاءُ/ تَسَتَّرْ بِالسَّخَاء فَكُلُّ عَيْب يغطيه كما قيلَ السَّخاءُ/ ولا تر للأعادي قط ذلّاً/ فإن شماتة الأعدا بلاء/ ولا ترجُ السماحةَ من بخيلٍ فَما فِي النَّارِ لِلظْمآنِ مَاءُ».أما رهين المحبسين، أبو العلاء المعرّي فيقول: «الصبرُ يوجَدُ، إن باءٌ له كُسرَتْ/ لكنّهُ، بسكونِ الباءِ، مفقودُ/ ويُحمَدُ الصابرُ المُوفي على غَرَضٍ/ لا عاجزٌ، بعرى التقصيرِ، معقود». الصبر يكون في بعض حالاته قرين الصمود وقوة العزيمة من أجل بلوغ هدف في الحياة، فردياً كان أو جمعياً، ولا يمكن بلوغ الذرى دون صبر تسلق محفوف بالمخاطر للجبال الوعرة.لا يوجد ما يعبّر عن الصبر العاطفي، أو عن نفاده، أكثر من ذلك الموجود في كلمات الأغاني، أغانينا العربية خاصة. هاهي سيدة الغناء العربي، أم كلثوم، تعاند الصبر الذي لم يفلح في تحقيق ما نشدته من نسيان: «وصفوا لي الصبر/ لقيته خيال وكلام في الحب، / يا دوب، يا دوب ينقال/ أهرب من قلبي أروح على فين/ ليالينا الحلوة في كل مكان/ مليناها حب إحنا الاثنين/ وملينا الدنيا أمل، أمل».في أغنية كلثومية أخرى بدا أن الكيل قد طفح بالعاشقة الصابرة، فجاء هجاء الصبر بأقسى ما يكون الهجاء: «ما تصبرنيش ما خلاص/ أنا فاض بيّ ومليت»، فيما تبدو العاشقة، في أغنية فيروزية هذه المرة، عاتبة على من أخذ بيديها إلى درب الحب ولم يعلمّها النسيان: «دلوّني ع درب الحب وطاروا/ وعلى درب الصبر ما دلوّني/ علموّني حُبّك ولاموني».من واقع تجربة شخصية أقول إن المراجعات الطبية المتواصلة، الاضطرارية في وجهٍ من وجوهها، هي الامتحان الأكبر لملكة الصبر عند الإنسان.
امتحان الصبر
مواضيع ذات صلة