أحمد برقاوي
يُنظر إلى الثقافة بالمعنى الأنتروبولوجي للكلمة على أنها هي التي نشأ الفرد فيها وكبر، واكتسب قيمها وعاداتها بل وكونت ذهنيته وطقوس العلاقات بين الناس، فضلاً عن أنها تورث الفرد جملة من الأفكار حول قضايا الحياة المختلفة.
إنها المجتمع والمدرسة والأسرة، لكن الثقافة تخضع بدورها لعملية تغير وتحول بتغير وتحول المجتمع ذاته، فعادات الثأر القديمة هي صورة ثقافية من صور الانتقام من القاتل أو ممن هو في حكمه من الأقارب، ولكن مع ظهور الدولة والقانون والمحاكم لم يعد الثأر وسيلة للقصاص. وقس على ذلك شؤون الحياة الأخرى التي تغيرت وأنتجت تغيرات في الوعي.
ولم يعد معها مقبولاً أن تعيش في مجتمع جديد بعادات قديمة، لم يعد بالإمكان العيش بمعتقدات خرافية في توسع مؤسسات التعليم ومراكز البحث وانتشار العلم الذي صار بمتناول الجميع، وبخاصة عبر وسائل التواصل المختلفة.وليس خافياً على أحد جملة الترسيمات القولية أو المحكية التي تتوارثها الأجيال:
فمازال هناك من يتعوذ من الأنا عندما يقول أنا، مع أن الأنا في هذا العصر صارت مستقلة ووعيها بذاتها قوياً، ومازال بعض الناس إذا ضحكوا بسعادة يقولون اللهم اكفنا شر الضحك مع أن الضحك هو خير وينم عن فرح، وهناك من يسطر على الشاحنة أو السيارة قول: اتق شر من أحسنت إليه، مع أن الإحسان هنا فعل خير. ومازال بعض الذكور ينظرون إلى المرأة بوصفها عورة، المرأة التي دخلت كل صعد الحياة: مدرسة وأستاذة وقاضية ونائبة، ووزيرة الخ. قس على ذلك.
ما وجه الإغراء في أيديولوجيا ضد الثقافة الإبداعية تكره التمثيل والموسيقى والنحت والرسم والشعر والفلسفة والمسرح والعلم.وقد أطلقت العرب على الشخص الذي يتسمر في عالمه القديم اسم المتخشب.ويقول المعجم العربي: اخشوشب صار صلباً في مبدئه أو ملبسه وجميع أحواله.
والحق أن المشكلة لا تكمن في وجود المتخشب في الحياة، فهذه ظاهرة لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات، بل تكمن المشكلة في أن يتحول المتخشب إلى فاعل في وسائل التواصل الاجتماعي المدنية والرسمية، ويدعو إلى تخشبه.
إن الخشب ليس سوى شجرة فقدت حياتها وتحولت للصناعة وللاستعمال يمكن أن يصير عصا، ويمكن أن يصير تابوتاً، ويمكن أن يصير قفصاً، ويمكن أن يصير وتداً أو حطباً، ويمكن أن يصير مركباً أو مجدافاً، ويمكن أن يكون منصة، لكن المتخشب يمكن أن يصير متعصباً نافياً للآخر ويمكن أن يصير قاتلاً، ويمكن أن يتحول إلى إرهابياً، ولكن كل ذلك رهن بإرادة سيد المتخشبين. ولكن لا يمكنه أن يكون صانعاً مجدداً وناجحاً، وعقلاً يفكر وقلباً يحب.
ولا يحسبن أحد من الناس أن المتخشب وقف على الدهماء من الناس، بل إنك لتجدن أسوأ المتخشبين من ينتمون في الظاهر إلى أهل العلم بوصفهم صناديق معلومات فقط، ولكنهم محتفظون بذهنية عفى عليها الزمن.بل ونجد في بعض الأحيان ظاهرة تحتاج إلى تأمل ألا وهي انتقال شخص من عالم المعرفة والبحث والتجديد إلى التخشب.
فما هي الأسباب التي تحمل شخصاً حصل على درجة الدكتوراه في مبحث من مباحث العلوم الإنسانية وذا ثقافة واسعة ثم وبعد عمر تخشب وعاد إلى عالمه القديم، بل إلى عالم غيره القديم؟ ربما أصيب بمرض النكوص النفسي والعقلي أي العودة إلى المراحل الأولى لوعيه.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فهنا مرض نفسي يدُعى التخشب. حسب القارئ أن يعود إلى علم الطب ليعرف أعراضه وأسبابه، ولكنه يبقى حالة فردية مرضية، أما المتخشبون الفاعلون فهم قد يرتكبون حماقات خطيرة، وأخص المتخشبين الأيديولوجيين.