: آخر تحديث

روسيا البوتينية تخلط أوراق العالم

66
54
60
مواضيع ذات صلة

بقرارها غزو أوكرانيا المسالمة، خلطت روسيا البوتينية أوراق عالم مضطرب أصلا واقتصاديات لم تفق بعد مما تسببت به جائحة كورونا من انهاك وضمور. ارتفاعات في أسعار النفط، وانقطاع صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا، وخسائر في أسواق الأسهم، وصعود أسعار الدولار الأمريكي وانهيار الروبل الروسي، وعقوبات على كيانات وشخصيات روسية، وحرمان موسكو من التكنولوجيا الغربية المتطورة، وخراب ودمار في البنية التحتية الأوكرانية، واضطراب في العلاقات الدولية والمواصلات العالمية. هذه فقط أمثلة أولية بسيطة لنتائج الغزو. غير أن الأوضاع حبلى بالمزيد من الآثار المدمرة، خصوصا إذا ما كان في جعبة قادة الكرملين مخططات سرية أخرى لتنفيذ ما يرونه حقا أمنيا واستراتيجيا من حقوق بلادهم الطامحة لإستعادة أمجاد زمن سوفيتي غابر، ودور عالمي مواز لدور الولايات المتحدة الأمريكية.

جملة القول أن العالم يمر بمنعطف خطير غير مسبوق منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وقد يتطور الأمر بصورة أسوأ من كل التصورات والاحتمالات في حال إقدام قوى أخرى على الاحتذاء بما فعلته روسيا البوتينية. وهذه القوى، بطبيعة الحال، كثيرة ولم تخف يوما تطلعاتها لجهة غزو جاراتها المسالمات تحت ذرائع عديدة كالحق التاريخي والجغرافي، وضرورات الأمن القومي، وعودة الفرع إلى الأصل، واجتثاث الحركات الانفصالية وغيرها. وبعبارة أخرى فإن ما حدث لأوكرانيا في غمضة عين وأمام مرأى ومسمع المجتمع الدولي قد يغري بكين باستعادة تايوان، وإيران بضم أذربيجان أو العراق، وكوريا الشمالية بشن حرب على كوريا الجنوبية مثلا. أما الآثار المدمرة لمثل هذه التحركات والقرارات على مستقبل الشعوب وأمنها ورفاهيتها فلا قيمة لها، بل تهون في سبيل تحقيق «تطلعات القائد الملهم» أو «تمريغ أنف العدو في الوحل» أو الانتقام من «الشيطان الأمريكي». ولا بأس بإضفاء نعوت ذي جاذبية لدى البسطاء على الحدث مثل «النصر الإلهي»، أو «أم المعارك» أو «القرار التاريخي».

ما يعنينا هنا هو أنه منذ اندلاع أزمة أوكرانيا، قبل تطورها إلى حرب وقصف وغزو مسلح، لم يـُكتب سوى القليل جدا حول آثارها وتداعياتها المحتملة على دول الشرق الأوسط العربية. صحيح أن الأخيرة بعيدة نسبيا عن ساحة الحرب، إلا أن الصحيح أيضا هو تداخل مصالح الشعوب والأمم في عالم لم تعد فيه الجغرافيا السياسية حائلة دون تأثر دولة بما يقع في أخرى. فعلى سبيل المثال كانت لعملية غزو أوكرانيا آثار ايجابية على الدول العربية المنتجة للنفط تجسدت في ارتفاع سعر برميل البترول إلى حدود لم تشهده منذ سنوات طويلة، لكن في المقابل من المحتمل بل من المؤكد أن تتضرر الاتفاقيات التجارية والاستثماراتية والدفاعية التي أبرمتها بعض الدول الخليجية مع أوكرانيا.

من ناحية أخرى، نجد أن الحدث الأوكراني ساعد في زيادة الطلب على واردات الغاز من بعض الدول العربية المصدرة له مثل قطر ومصر لتعويض نقص امدادات الغاز إلى أوروبا جزئيا، لكن في المقابل قد تعاني بعض الدول العربية مثل مصر ولبنان ودول شمال أفريقيا العربية من نقص القمح في أسواقها، خصوصا إذا ما كانت تعتمد في وارداتها من هذه السلعة الغذائية على أوكرانيا أو روسيا اللتين تمثل صادراتهما من القمح نحو 30% من السوق العالمية (يستورد اليمن وليبيا مثلا 22% و40% على التوالي من إجمالي استهلاكهما من القمح من أوكرانيا التي صعدت في العقد الأخير إلى احتلال المرتبة الثالثة عالميا في انتاج القمح والمرتبة الرابعة في انتاج الذرة)، وبطبيعة الحال فإن البدائل متوافرة في استراليا وكندا والولايات المتحدة، لكنها مكلفة سعرا وشحنا. إلى ذلك، فإن التأثيرات السلبية للحدث قد تطول قطاع السياحة في دول عربية مثل مصر والمغرب وتونس التي يعتمد قطاعها السياحي بنسب متفاوتة على السياح القادمين من أوكرانيا وروسيا. ففي مصر مثلا يشكل نسبة السياح الروس والأوكرانيين نحو 40% من إجمالي السياح القادمين إليها من أوروبا، وقد لوحظ أن نسبة حجوزاتهم الملغاة وصلت إلى 35%، ما يعني العودة إلى الأوضاع التي عانى منها القطاع السياحي خلال العامين الماضيين جراء تفشي وباء كورونا.

ما يجب الانتباه له أيضا هو أن الولايات المتحدة وحليفاتها الأوربيات عازمة على استخدام العقوبات الاقتصادية كسلاح للتعامل مع روسيا، وهذا من شأنه أن يفسد على موسكو مبيعاتها من النفط، فلن تجد أمامها سوى الأسواق الصينية لتسويق خامها بطرق ملتوية كما تفعل طهران، الأمر الذي قد يؤثر نسبيا على كميات النفط التي تستوردها بكين من دول الخليج العربية.

بعيدا عن الآثار الاقتصادية للغزو على الدول العربية، هناك الآثار السياسية. فعدا أن الأقطار العربية ستجد نفسها مجبرة على اتخاذ مواقف شديدة الحذر وتبني سياسات حيادية كي لا تخسر أحد طرفي النزاع (روسيا والغرب)، فإنها ستواجه صعوبات في حلحلة بعض الملفات العربية كملفي سوريا وليبيا بسبب غياب الحد الأدنى من التفاهم الروسي - الغربي حول القضايا الإقليمية. هذا ناهيك عن احتمال توجيه دفة معظم المساعدات الانسانية الدولية الطارئة صوب مناطق النزاع في أوكرانيا، وبالتالي حرمان المنكوبين في مناطق الصراع في اليمن وسوريا أو في مخيمات النازحين السوريين في الأردن وتركيا من جزء من هذه المساعدات، ما قد يؤدي إلى المزيد من حالة عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد