: آخر تحديث

أم الجود

4
3
2

في عالمٍ يختلط فيه صدى الأسماء مع وقع الأحداث، هناك شخصيات لا تحتاج إلى ضجيج لتُخلَّد، تبقى في الذاكرة مثل نقشٍ غير مرئي على جدار الزمن، يُحسّ ولا يُرى. هكذا هو إرث الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز آل سعود (أم الجود) و(أم الإنسانية)؛ إرث مختلف، ليس سطورًا تُكتب في سجل التاريخ فقط، بل أثر يعيش بين التفاصيل، تفاصيل الأرواح التي لمستها، والقلوب التي دخلتها بهدوء يشبه همس الحكمة وسط ضجيج العالم. لم تكن الأميرة صيتة بحاجة إلى الأضواء لتكون حاضرة، حضورها كان في أثرٍ عميق لا يحتاج إلى صخبٍ لتأكيده، وفي عالم تُقاس فيه الإنجازات بعدد الأوسمة أو حجم المشاريع الضخمة، كان إرثها مختلفًا، إرثها كان في إنسانيتها التي عَبَرت حدود الألقاب، وفي عطاءٍ لا يُقاس بالأرقام، بل بحجم الأمل الذي زرعته في النفوس. إنها تلك البصمة التي لا تُرى بالعين المجردة لكنها محفورة في ذاكرة من عايشوا روحها.

إرثها لم يكن تاريخًا عائليًا مرتبطًا بجذور ملكية كريمة، بل كان امتدادًا لفكرة: أن العظمة ليست فيما تملكه، بل فيما تمنحه. كانت تملك القدرة على تحويل البساطة إلى رسالة، والصمت إلى حكمة. لم تتحدث كثيرًا عن نفسها، لأن أفعالها كانت تتحدث بوضوح لا يحتاج إلى ترجمة، مثل شجرة وارفة لم تكن تحتاج لأن تصرخ بوجودها، يكفي أن يشعر الناس بظلها.

إقرأ أيضاً: أسرار الفاتيكان: بين صرح الإيمان ودهاليز المال

في مجتمع يزخر بالشخصيات البارزة، بقيت الأميرة صيتة رحمها الله رمزًا مختلفًا، لأنها لم تسعَ لأن تكون اسمًا لامعًا في سجل طويل، بل اختارت أن تكون أثرًا في حياة الآخرين. إرثها لم يكن أفعالًا عابرة، بل سلسلة من المواقف والمبادرات التي شكلت نسيجًا إنسانيًا فريدًا. كانت تعرف أن الإرث الحقيقي ليس فيما يُقال عنك بعد رحيلك، بل فيما يبقى حيًا في قلوب من مررت بحياتهم.

اللافت في إرثها أنه كان صامتًا بقدر ما كان مؤثرًا، لم يكن بحاجة إلى مهرجانات تكريمية أو احتفالات ضخمة. لقد عاشت لتؤمن بفكرة أن العطاء الحقيقي هو الذي يُقدَّم دون انتظار رد جميل. لم يكن كرمها واجبًا دينيًا واجتماعيًا فقط، بل قناعة راسخة بأن القلوب تُروى بالعطف قبل أن تُغذى بالكلمات.

ولم تكن إنسانيتها محصورة في دائرة ضيقة من العلاقات، بل امتدت لتشمل قضايا المجتمع، ودعم المبادرات التي تعزز من كرامة الإنسان. لم تكن تسعى للشهرة في عمل الخير، بل كانت ترى أن القيمة الحقيقية للعطاء تكمن في خلوه من حب الظهور. إرثها هو انعكاس لفلسفة شخصية: أن القوة الحقيقية ليست في القدرة على السيطرة، بل في القدرة على منح الآخرين الأمل دون قيد أو شرط.

إقرأ أيضاً: هل نقترب من مرحلة توجيه العقول؟

ربما كان بإمكانها أن تختار حياة يسهل اختصارها في سطور رسمية، لكنها اختارت أن تعيش حياة لا يمكن حصرها في كلمات. إرثها هو هذا التناقض الجميل: حياة بسيطة في مظهرها، لكنها عميقة في تأثيرها. كانت تشبه الموجة التي تمر بهدوء، لكنها تترك أثرها على الشاطئ طويلًا بعد رحيلها.

وفي عالمٍ يركض وراء الإنجازات السريعة، كان إرث الأميرة صيتة مثل وقفة تأمل وتذكير بأن ما يبقى ليس دائمًا هو ما يُقال في الأخبار أو يُكتب في الكتب، بل ما يظل نابضًا في تفاصيل لا يلتفت إليها الكثيرون. إرثها هو ذلك الحضور الذي لا يعتمد على زمن، لأن تأثيره تجاوز اللحظة واستقر في وجدان من عرفوها.

إقرأ أيضاً: أراضٍ خارج السيادة… لغز الجغرافيا والسياسة

في النهاية، ربما لا يحتاج إرث الأميرة صيتة إلى تعريف أو تفسير. يكفي أن نقف أمامه صامتين، كما نقف أمام لوحة فنية لا تحتاج إلى شرح. يكفي أن نشعر به، أن نستحضره في لحظات تأملنا لما يعنيه حقًا أن يكون الإنسان عظيمًا. فالعظمة الحقيقية ليست ما تتركه خلفك من أشياء، بل ما تتركه من معنى. وهذا هو إرثها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف