جرت العادة حين تتولى الحكم دكتاتورية ما في بلد من البلدان استولت على السلطة في غفلة من الزمن، أن تبدأ بضخ الشعارات التثويرية الرنانة، مدعية أنها قد أتت للقضاء على العبودية والفساد، كي تعطي صورة عن نفسها مغايرة تماماً لما كان يعاني منه الشعب في ظل حاكم لا يرحم، وبذلك تكون قد استعملت وسائلها الممهدة المعلنة لإبعاد أي شك عما تضمره في سريرتها من نوايا تحمل بذور الاستحواذ البراغماتي المطلق بأوسع زواياه، وحرمان الشعب من أبسط حقوقه المشروعة في العيش الكريم وصون كرامته الإنسانية.
إنَّ الشعب الإيراني الذي حلم طويلاً بالانعتاق من ظلم الحكام لم يفطن بداية إلى أنَّ هؤلاء الملالي عملوا باسم الدين على التحايل على الجماهير لكسب تأييدهم أو تحييدهم على الأقل من خلال اللعب على أوتار عواطفهم الجمعية، لاسيما وأن هذه السلطة أتت عقب معاناة مريرة مع حكم الشاه، الذي جرّعهم المرار وأذاقهم ويلات تسلطه وطغيانه. لقد تمكن الشعب الإيراني في ثورته الوطنية من إسقاط الشاه ونظامه، لكن ثورته سُرقت على يد الملالي الذين أصبحوا خلفاً يسير بإخلاص على درب سلفه، فوقع البلد بقبضة الملالي رهينة للدكتاتورية من جديد.
هيمن الملالي على مقدرات الشعب الإيراني، وجيّروا مؤسسات الدولة ومفاصلها لخدمة أطماعهم المقيتة بعيداً عن التشاركية والعدالة الاجتماعية، وهما من أهم حوامل الديمقراطية الشعبية. فتحوّل التستر بغطاء الإعلام التضليلي إلى عري سياسي فاضح بكل وضوح، لا مجال فيه للمواربة، ولا لتخمينات "القلوب الطيبة". حينذاك أيقنت الجماهير الإيرانية أنها قد خُدعت، ولم تجد سوى بوصلة سياسية منحرفة الاتجاهات والتوجه.
إقرأ أيضاً: الثورة السورية وخطر ملالي طهران
ها قد مضى 46 عاماً على تولي شذاذ الآفاق السلطة في إيران، وما زال الشعب يعاني من العقلية الرجعية الآثمة، فيزداد إصراراً على التصدي للنظام ومجابهته بكل عنفوان الانتفاضة الشعبية المباركة، يسانده في ذلك منظمة مجاهدي خلق بوحداتها المقاومة عبر رجالها الصناديد في الداخل الإيراني الذين يستأسدون بطول البلاد وعرضها، ويهزون أركان النظام هزاً عنيفاً.
ها هم ملالي إيران، بعد تقليم أظافرهم الطولى لذراعهم اليمنى (حزب الله)، وطردهم الماحق من سوريا، وتضعضع ميليشياتهم في العراق بعد التهديدات الأميركية، وافتضاحهم في غزة وكسرهم لها وإبادتها وتشريد أهلها، يظهرون في حالة مزرية من الضعف والفوضى، تنتابهم الوساوس، ويخنقهم القلق على مستقبل وجودهم ومشاريعهم الإقليمية التي بذلوا لأجلها كل غالٍ ونفيس. فمع وصول ترامب إلى البيت الأبيض باتوا يخشون أكثر من ذي قبل على مشروعهم النووي (الحلم)، لأن الغرب وإسرائيل لا يمكن أن يسمحوا لهم بامتلاك القنبلة النووية حتى وإن هادنوهم وتحالفوا معهم في بعض الأمور. وإذا ركب ملالي إيران رؤوسهم المتعنتة، وأصروا على تحقيق حلمهم (بعيد المنال والمآل) من خلال اللعب على الوقت وتسويفه، فإن ذلك سوف يؤدي إلى دخول النظام في نفق عاتم يعرفون أوله ولا يصلون آخره.
إن دائرة الضغوط الإقليمية والدولية تضيق على رقبة النظام وتحشره في الزوايا الصعبة، وربما في قادم الأيام تتضح الصورة أكثر، وينجلي كل غموض فيها، فلا يجد النظام بداً من أمرين لا ثالث لهما:
الأول هو الرضوخ لمباحثات لن تكون في صالحه (سيرورة ومآلاً)، وبذلك يتم القضاء على حلمه الأهم والأعتى من خلال رقابة دولية مستدامة على مواقعه النووية الظاهرة والمخفية، فيصبح حلمه من مخلفات الماضي.
إقرأ أيضاً: ملالي إيران ومستقبل سوريا
الأمر الثاني هو أن يُستدرج إلى التصلب والصلافة، وإبداء عدم المرونة السياسية التي لا تقتضيها الظروف الدولية لا الآن ولا في المستقبل المنظور على الأقل، فيكون بذلك قد حكم على نفسه بالإعدام دون مراعاة “طلب الرأفة”، بعد أن تكون الأمور قد سُدّت منافذها ونوافذها، وأُحكم إغلاق أبوابها ومسالكها… حينها ينطبق على النظام قول الشاعر:
قدِّرْ لرجلك قبل الخطو موضعها… فمن علا زَلَقاً عن غِرّة زَلَجا
وكما انتصرت الثورة في سوريا ستنتصر في إيران في ظل وجود مقاومة عريقة بتاريخها وفكرها وتضحياتها؛ مقاومة منظمة قادرة على صيانة إيران ومستقبل شعبها.