منذ سقوط نظام معمر القذافي في عام 2011، تعيش ليبيا في دوامة من الفوضى السياسية والانقسامات الداخلية. بالرغم من الجهود الدولية والمحلية لتوحيد البلاد وتشكيل حكومة مركزية قادرة على فرض سيطرتها، إلا أنَّ الساحة السياسية الليبية لا تزال تعاني من الانقسام العميق بين الشرق والغرب، وسط تواجد ميليشيات مسلحة ومصالح متضاربة بين القوى الدولية. السيناريوهات السياسية في ليبيا معقدة للغاية، ولا يمكن التنبؤ بمستقبل البلاد بسهولة، في ظل وجود أطراف متعددة تتصارع على السلطة والنفوذ.
أحد أهم الأسماء البارزة في المشهد الليبي هو المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي الذي يسيطر على معظم المناطق الشرقية من البلاد. حفتر، الذي يعتبر شخصية مثيرة للجدل، يحظى بدعم قوي من مصر والإمارات وروسيا، ويعتبره الكثيرون حصناً ضد الميليشيات المتشددة والإسلاميين الذين يسعون للسيطرة على البلاد. منذ 2014، يسعى حفتر لإقامة نظام سياسي قوي يستمد شرعيته من سيطرته العسكرية، وقد تمكن بالفعل من السيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي الليبية، بما في ذلك الحقول النفطية الرئيسية.
في المقابل، يقف فايز السراج، رئيس حكومة الوفاق الوطني، المدعومة من الأمم المتحدة والتي تتخذ من العاصمة طرابلس مقراً لها. السراج يمثل التحالف الحكومي في الغرب، ويحظى بدعم دولي واسع، عربي وغربي، ومع ذلك، فإنَّ نفوذه محدود خارج طرابلس وبعض المدن في الغرب، حيث تعاني حكومته من سيطرة الميليشيات المسلحة التي تتصرف بشكل مستقل غالباً، ما يجعل من الصعب على السراج بسط سيطرته على كامل البلاد أو حتى توحيد المؤسسات الحكومية.
في السنوات الأخيرة، ظهر لاعب دولي جديد في المشهد الليبي، وهو تركيا، التي قامت بتوقيع اتفاقية أمنية وعسكرية مع حكومة السراج في أواخر عام 2019. بموجب هذه الاتفاقية، قدمت تركيا دعماً عسكرياً مباشراً لحكومة الوفاق الوطني، بما في ذلك إرسال مستشارين عسكريين وأسلحة، بالإضافة إلى مرتزقة سوريين شاركوا في الصراع إلى جانب قوات حكومة الوفاق. هذا التدخل التركي قلب موازين القوى مؤقتاً في الغرب الليبي، حيث تمكنت قوات السراج بدعم تركي من استعادة السيطرة على عدد من المناطق التي كانت قد سقطت بيد قوات حفتر.
في الوقت نفسه، تلعب روسيا كالعادة دوراً غامضاً في ليبيا من خلال دعمها غير المباشر لحفتر، حيث تشير تقارير إلى وجود قوات مرتزقة روسية تعرف باسم "فاغنر" في الأراضي الليبية، تعمل تحت غطاء دعم الجيش الوطني الليبي. الدور الروسي يعكس رغبة موسكو في تعزيز نفوذها في منطقة شمال أفريقيا والسيطرة على مصادر الطاقة في ليبيا، التي تمتلك واحدة من أكبر احتياطيات النفط في القارة.
إقرأ أيضاً: الصومال: تحديات مستمرة وآفاق التغيير
إلى جانب هذه الأطراف الرئيسية، هناك العديد من اللاعبين الصغار الذين يسهمون في تعقيد المشهد السياسي. من بين هؤلاء القوى، الإخوان المسلمون في ليبيا الذين ينشطون ضمن عدة تشكيلات سياسية، مثل حزب العدالة والبناء، وهم جزء من التيار الإسلامي الذي يحظى بنفوذ سياسي في مناطق الغرب. كما أنَّ الميليشيات المسلحة في مصراتة والزنتان تلعب أدواراً مستقلة، وغالباً ما تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة بعيداً عن الأجندة الحكومية المركزية.
السيناريو السياسي في ليبيا قد يتخذ مسارات عدَّة في المستقبل، ولكن من أبرز السيناريوهات المطروحة هو إمكانية تقسيم البلاد فعلياً إلى منطقتين رئيسيتين، الشرق الذي يخضع لسيطرة حفتر، والغرب الذي تسيطر عليه حكومة الوفاق. هذا السيناريو قد يصبح حقيقة إذا فشلت الجهود الدولية في تحقيق توافق بين الأطراف المتنازعة، وخصوصاً في ظل استمرار التدخلات الإقليمية والدولية التي تعمق الانقسام. لكن مثل هذا التقسيم سيواجه عقبات عديدة، حيث أن الموارد النفطية الرئيسية تقع في مناطق تتداخل فيها النفوذ بين الطرفين، مما يجعل من الصعب رسم حدود واضحة لأي تقسيم سياسي.
إقرأ أيضاً: بوروندي: أرض الفقراء الغنية بالفرص الضائعة
من السيناريوهات الأخرى التي تلوح في الأفق، هو استمرار الصراع المسلح مع فترات من الهدوء النسبي، كما حدث في السنوات الماضية. في هذا السيناريو، يمكن أن تستمر المواجهات العسكرية بين قوات حفتر وقوات حكومة الوفاق المدعومة تركياً، مع إمكانية توقيع اتفاقيات هدنة مؤقتة تحت ضغط دولي، ولكن دون الوصول إلى حل نهائي للأزمة.
على الجانب الآخر، هناك احتمال، وإن كان ضئيلاً، لتحقيق مصالحة وطنية شاملة عبر الوساطة الدولية. تعمل الأمم المتحدة ودول كبرى مثل الولايات المتحدة وألمانيا على دعم جهود المصالحة الوطنية وإجراء انتخابات جديدة، يمكن أن تؤدي إلى تشكيل حكومة توافقية تمثل جميع الأطراف. لكن هذا السيناريو يعتمد على إرادة الأطراف المحلية في التوصل إلى حلول سياسية والتخلي عن الحل العسكري، وهو ما يبدو بعيد المنال في ظل الشكوك المتبادلة بين حفتر والسراج والمجموعات المسلحة المختلفة.
إقرأ أيضاً: جيبوتي: بوابة الاستقرار والتوازنات الاستراتيجية
السيناريو الأسوأ الذي يخشاه الليبيون هو تحول البلاد إلى سوريا جديدة، حيث تصبح ليبيا ساحة لصراع طويل الأمد بين القوى الإقليمية والدولية. مع استمرار التدخلات العسكرية والاقتصادية، قد يتحول الصراع الليبي إلى نزاع دائم، يؤدي إلى تدمير البنية التحتية وتدهور الأوضاع الإنسانية بشكل أكبر، مما يزيد من معاناة الشعب الليبي.
ختاماً، يبقى المشهد السياسي الليبي معقداً وغير قابل للتنبؤ على المدى القصير. بينما تحاول الأطراف الدولية دفع الليبيين نحو حلول سلمية، لا يزال الصراع على الأرض بين الأطراف المتنازعة هو العنصر الحاسم في تشكيل مستقبل ليبيا. قد تتطلب إعادة بناء الدولة الليبية وقتاً طويلاً وجهوداً جبارة، ولكن يظل أمل الليبيين في التوصل إلى تسوية سياسية مستدامة هو السبيل الوحيد لتجنب سيناريوهات أكثر دموية وتعقيدًا.