: آخر تحديث

ترمب والثورة الثانية والتاريخ

5
5
4

ما حدث يوم الجمعة الماضي، خلال المؤتمر الصحافي المنقول مباشرة على الهواء، في المكتب البيضاوي، بالبيت الأبيض، بلغ من الوضوح درجة لم يعُد بعدها في حاجة إلى شرح شارحين، أو إلى جدال بين محللين. حالُ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في تلك الجلسة التاريخية، كانت كحال من سعى بقدميه إلى عرين أسد.

إنها فعلاً حقبة ثورة ترمبية ثانية. الثورة الأولى (يناير/كانون الثاني 2017 - يناير 2021)، افتقد القائد الرئيس الأميركي دونالد ترمب ما يحتاجه من خبرة ومقاتلين في الكونغرس وخارجه، كما افتقد إيلون ماسك. لكن في الثورة الثانية، التي بدأت في شهر يناير من العام الحالي 2025، أحكم القائد ترمب وضعيته، وجهّز نفسه بما يحتاجه من مؤسسات ومقاتلين، وأعطى الأمر بالهجوم. ما لم يكن متوقعاً، أن يكون أول الأهداف هو زعزعة استقرار حلفاء أميركا في أوروبا. وعلى ما يبدو، فإنَّ أميركا في الثورة الترمبية الثانية، بدت كأنَّها تعيد تنظيم الاصطفافات دولياً، بما يتناسب وأهدافها.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رُفع من خانة الأعداء وثُبّت في خانة الأصدقاء. وليس أمام قادة دول أوروبا كثير من الوقت للإفاقة من الصدمة، واتخاذ ما يلزم من تدابير. من طبيعة الثورات أن تأكل أولادها. وثورة ترمب الثانية ليست استثناءً. وقادة أوروبا هم من كانوا بالأمس القريب أولاد أميركا، الذين تكفلت بحمايتهم. واتضح الآن أن عليهم، وعلى وجه السرعة، أمر تدبر حماية أنفسهم بأنفسهم. أميركا ترمب في الثورة البيضاء الثانية، بعد إعادة نظر سريعة في الحسابات، رأت أنّهم حمل ثقيل عليها، من دون فائدة تُرجى. ونائب الرئيس الأميركي جي دي فانس، لم يتردد مؤخراً في إسماعهم ما يكرهون علناً، خلال مؤتمر ميونيخ للأمن. وها هم الآن، يتراكضون بين عواصم بلدانهم، في اجتماعات متتالية وعاجلة، على أمل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وبالبدء في التفكير بطرائق جديدة للعيش خارج مظلة الحماية الأميركية، والاعتماد على أنفسهم في تسليح جيوشهم، ودعم أوكرانيا سياسياً وبالمال والسلاح، حتى لا يبتلعها الدبُ الروسي، ويقعون جميعاً بين فكّي كماشة: سياسة الانعزال والتخلي الأميركية من جانب، وسياسة ما يرونه توسعاً روسياً مستقبلاً من جانب آخر. الخطة (أ) تقتضي توحيد صفوف أوروبا، والتكتل في وجه القائد الأميركي ترمب، بإعلان الالتزام بدعمهم أوكرانيا، ورفض تخليهم عنها، واستقبال الرئيس الأوكراني في لندن استقبال الأبطال، بعد يومين فقط من طرده من البيت الأبيض «عيني عينك». الخطة (ب) تقتضي الملاينة مع الرئيس ترمب، ومواصلة سياسة التنمر على سيد الكرملين، والاستمرار في عملية عزله، وتشديد العقوبات على روسيا. نجاحُ الخطتين من عدمه يتوقف على أشياء كثيرة. إذ من أين ستأتي دول أوروبا بالأسلحة المتطورة التي كان يوفرها الحليف الأميركي بكثرة. وقبل ذلك، وفي ظل الركود الاقتصادي، وانعكاساته على القطاعات الحياتية اليومية، من أين ستأتي بالأموال؟ وماذا عن التعارض في الأهداف والاستراتيجيات بين مختلف العواصم الأوروبية؟ وعلى سبيل المثال، أين ستتموضع المجر في الخطتين؟ أم أنها ستكون بمثابة حصان طروادة روسي داخل أوروبا؟ وواقعياً، تبدو أوروبا الآن مثل طفل هجرته أمه فجأة. ولا يعرف أين يذهب أو ماذا يفعل. ومن حقائق العيش في العالم اليوم، أن لا وجود ولا اعتبار إلا للأقوياء. فهم الذين يصممون المسارات والسياسات، وهم من بيدهم صنع القرار. والبرهان على ذلك أن الرئيس ترمب في سعيه لوقف إطلاق النار بالحرب الأوكرانية - الروسية تجاهل أوروبا. ذلك التجاهل، كان بمثابة دعوة إيقاظ لقادة أوروبا. ثم جاءت بعدها مباشرة صدمة المؤتمر الصحافي في المكتب البيضاوي، وما أبانت تصريحات الرئيس ترمب ونائبه خلاله، وتلاها مباشرة طرد الرئيس الأوكراني وفريقه من المستشارين من البيت الأبيض، هذا وفق ما أشارت إليه وكالات أنباء، وربما يكون هذا لتأجيج الحادثة.

مستشار الرئيس ترمب سابقاً للاستراتيجيات ستيف بانون، وصف حادثة المكتب البيضاوي الأخيرة بأنها «العشر دقائق التي غيّرت العالم». خلالها، سقطت الأقنعة والحُجبُ. وتبيّن للجميع من دون استثناء، في أوروبا وخارجها، ومن دون حاجة إلى شرح شارحين، أو إلى جدال بين محللين، أن الثورة الترمبية الثانية، مثل سيل هادر الآن، ليس بمستطاع أحد إيقافه في الغالب، أو حتى محاولة تغيير مجراه، على أمل تفادي الجرف.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.