محمد ناصر العطوان
مخطئ من يعتقد أن دور القرّاء وتأثيراتهم على الكتابة الصحافية أو الروائية يتمثل فقط في تلقي النص، بل الصحيح أن دورهم يتعدى ذلك، فيدخلون في تشكيله أيضاً.
منذ أول مقال شاركته ككاتب مقال صحافي في جريدة «الراي» الكويتية منذ عام 2012، ساخر وجاد، وبقبعة روسية ثم بغترة وعقال ثم حاسر الرأس، اجتماعي وتعليمي، من رواد مقهى «الرواء»، وصولاً إلى مجلس الوزراء... اكتسبت الكثير من الخبرات حول طبيعة الكتابة وأنواع القرّاء الذين يتفاعلون معها.
ومن خلال هذه التجربة، تمكنت من تصنيف القراء الرئيسيين إلى ثلاثة أنواع، وهم القارئ الذكي، القارئ المتذوّق، والقارئ المتأمّل.
القارئ الذكي، هو ذلك الشخص الذي يمتلك القدرة على فهم واستيعاب الأفكار المطروحة في المقالات في الفقرات الأولى منها. غالباً ما يشتكي هذا النوع من القرّاء من طول المقالات، حيث يفضّلون الوصول إلى الفكرة الرئيسية بسرعة وكفاءة. وقد تلقيت اتصالاً هاتفياً الأسبوع الماضي من قارئ يندرج تحت هذا التصنيف، حيث نصحني بأنني أهدر طاقتي في كتابة مقالات طويلة وماراثونية، رغم وضوح الفكرة من الأسطر الأولى... مما قد يزعج بعض القراء.
النوع الثاني هو القارئ المتذوّق، ويتميز هذا القارئ بحبه للعبارات وتناغمها أكثر من تركيزه على الفكرة نفسها، يهتم بكيفية بدء المقال وكيفية انتهائه، وكيفية تناول الموضوع والمفردات المستخدمة وطريقة تطويعها. بالنسبة إليه، فإن جمالية اللغة وتناسقها هي المفتاح للاستمتاع بالمقال.
أما القارئ المتأمّل، فهو المفضل لدي شخصياً، حيث يمتلك مهارات عقلية ونفسية وتجارب حياتية تجعله يأخذ النص إلى مساحات إبداعية ربما لم تخطر على بال الكاتب نفسه... يتمتع هذا النوع من القرّاء بقدرة فريدة على تحويل الأفكار إلى رؤى جديدة، مما يضيف عمقاً وجمالاً للنص المكتوب.
كان يمكن -عزيزي القارئ- أن أُنهي المقال هنا، ولكن رغبتي الماراثونية في الكتابة تتفوق على رغبة القارئ الذكي في الانتهاء، وعناداً في القارئ الذكي الذي اتصل بي ليشتكي من طول المقال، فسوف أعرض أيضاً أنواع القرّاء من وجهة نظر بعض الأدباء النقديين.
فلنبدأ بالقارئ المثقف، ذلك الذي يجلس في زاوية المقهى يحتسي قهوته السوداء، وكان للتو قد أنهى كتاباً عن الفلسفة الإغريقية، ثم تناول بعدها جريدة «الراي» ليقرأ، هذا النوع من القرّاء يحب أن يختبر ذكاءكم؛ لذا عليكم أن تحشو مقالاتكم بكل ما هو غامض ومعقّد، حتى يشعر بالرضا عن نفسه عند فك شفرات المقال الفلسفية والأدبية.
ثم ننتقل إلى القارئ العام، الذي يفضّل أن يقرأ أثناء انتظار ظهور رقمه على شاشة البنك، أو انتظاره في عيادة أسنان، هذا القارئ يحتاج إلى أن يكون المقال سلساً وبسيطاً؛ لأنه لا يملك الوقت ولا الصبر ليحلل معاني الكلمات المبهمة التي تُكتب.
وأخيراً، القارئ الباحث عن الهوية، الذي يريد أن يرى نفسه في كل شخصية تكتبون عنها، وفي كل موضوع تتناولونه، يريد أن يشعر أنكم تكتبون خصيصاً له؛ لذا عليكم أن تدرسوا كل ثقافة وعادة ليشعر بالرضا والتمثيل.
عزيزي القارئ المتأمل، إن الفكرة التي تقول إن أسلوب الكاتب وطريقته وتحولاته يتدخل فيها القرّاء ويساعدون على تشكيلها، ليست فكرة جديدة، فقط تناولها نجيب محفوظ، في حواراته ومقالاته، عندما تحدث محفوظ عن توقعات القرّاء وتأثيرهم على تطور أسلوبه في الكتابة، خاصة بعد حصوله على جائزة نوبل؛ حيث زادت مسؤولية تلبية توقعات جمهور أوسع، وكذلك إدوارد سعيد، في كتابه «الاستشراق»، تناول سعيد كيف يمكن للنصوص أن تتأثر بتوقعات القراء الغربيين، وما ينطبق على الكاتب هنا، ينطبق على الطبيب ومرضاه، والمعلم وطلابه، والمهندس والمقاولين الذين يتعامل معهم.
عزيزي القارئ المتذوّق، إن تنوع القرّاء هو ما يجعل الكتابة رحلة مستمرة وممتعة، ووصلاً بين نقطتين على الورق، ووصلاً بين نقطتين في الوعي، وتعطيلاً لمانع الضوضاء في سماعات الأذن في وقت يصرخ فيه الجميع قائلين «حريق... أطفئها»!
في النهاية، أود أن أشكر جميع القرّاء الأعزاء الذين يثرون مقالاتي بتنوّع اهتماماتهم وتوجهاتهم وملاحظاتهم... كما أود أن أعبّر عن امتناني لجريدة «الراي» الكويتية التي منحتني هذه الفرصة الثمينة للتواصل مع جمهور واسع ومتعدد الأذواق... أؤمن أنا وهم في النهاية... أن كل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.