مع أني لا أميل إلى الكلام التمجيدي عن لبنان، الكلام الذي أعتبره فارغا في بلد منهار ودون إنجازات في الشأن العام، أعتقد أن الإنجاز العالمي الذي حقّقته فرقة مياس هو بحق انتصار للنمط اللبناني في العيش والتفاعل الاجتماعي وارتقاء في قدرة المجتمع اللبناني على التحديث من مدخله الفني.
باختصار إنه انتصار ثقافي لبناني وعربي في مجال هو الرقص أنبل تعبير جسدي عن التواصل والتحرر.
فرقة مياس لم تخبّئ الرسالة ولا الهوية. في العروض الثلاثة، رغم اختلافها، كانت الرسالة المتصاعدة هي أداء الجسد النسوي الشرقي الساعي للتحرر من القيود. أما الهوية فهي في الإصرار على " الزي الشرقي" كأن الصبايا الراقصات يخرجن من حي في القاهرة أو مراكش أو أو .... ويعطين بقوة الجسد الذي كانت المؤثرات الصوتية خادمةً له، هن سيداته، إبداعاً وحضورا.
الصبايا و بأجسادهن يبعثن رسالة ثقافية من الدرجة الأولى، فحين يتماهى الرقي مع التراث تكون الهوية جزءا أصيلاً من التجسّد.
أعجبتني في عروض نديم شرفان تلك المحافظة العميقة التي تتجلّى في عمل هو بالنتيجة عمل تحرري.
حين تكون في فرنسا، في دولة من الدول التي تفكّر كل لحظة في المستقبل، حتى وهي تبدو متضايقة فعليا من ثمن الحرب في أوكرانيا عليها وعلى الاتحاد الأوروبي، وحتى تبدأ بنوع من التقنين الكهربائي الخفيف مثل إطفاء المؤسسات الحكومية ليلا أو الدعوة لوقف المسابح العامة التي تستخدم الغاز أو بدء تعرفة الكهرباء الجديدة ( مترافقةً، على الطريقة الفرنسية، مع منح شيكات للعائلات ذات المدخول الأدنى)
حين تكون في فرنسا وتقرأ وتشاهدعلى وسائل التواصل الاجتماعي وترى أصداء النجاح العالمي للون لبناني فني، تصيبك حسرتان:
الأولى ككل اللبنانيين وهم يرون انهيار بلدهم بلا قعر فيما تستمر طبقة سياسية مذهلة المافياوية والوقاحة تحتفظ بكل عناصر ديمومتها السياسية فوق القضاء والانتخابات وبخطاب بل خطابات نظام طائفي مفلس وقوي معاً.
الحسرة الثانية تبدأ من وجع في المعدة إلى اكتئاب في المقارنة.
كأنما "مياس" تخترق حصارا خانقاً جيليّاً، هو حصار أضاف إلى خسائر الجيل اللبناني الحالي خسائر فادحة لأجيال متتابعة منذ نصف قرن.
أما والكثير من اللبنانيين والعرب يتمنون أن يفتح هذا الإنجاز العالمي أبواب أكبر مسارح العالم مثل مسرح برودواي في نيويورك وأوبرا باريس (غارنييه) وأوبرا سيدني والمسرح الملكي اللندني وغيرها، أمام إبداعات جديدة ومدعومة لهذه الفرقة، فليس الجحيم اللبناني الذي يحرق أجسادنا وعقولنا سوى تلك اللعنة الملحمية التي كُتب علينا نحن بؤساء الوطن الصغير أن نجدّد تحملَّها. وتأتينا "مياس" كبارقة ثقة من تلك البارقات التي يتركها الاستيقاظ من حلم جميل ومريح. لكنها أكثر من حلم، ففيها من الوقائع أكثر من الرمز حتى يمكن اعتبار الانتصار رصيداً يُضاف ولو بصورة غير مباشرة إلى متانة جزء مهم من النظام التعليمي اللبناني الذي "أرسلت" ثقافتُه المنفتحة صبايا "مياس" إلى معاهد للرقص كما ترسل مئات الصبايا الأخريات في معظم أنحاء لبنان ومدنه، كما ولّدتْ مصممَ رقصات الفرقة الموهوب والمهموم بمسائل جوهرها ثقافي.
وقّعتْ "مياس" وَشْمَها على الجزء الذي لا يزال متيناً وواعدا من حاضر ومستقبل لبنان، وحفرت مساحة ما من الثقافة العربية بين "حقائق العصر".