إيلاف من الرباط: في حضور ثلاثة وزراء مغاربة للثقافة، هم محمد بن عيسى ، ومحمد الأشعري، ومحمد المهدي بنسعيد( الوزير الحالي ) ، وعشرات الصديقات والأصدقاء الأدباء، والقراء، كان الموعد،مساء السبت مع لقاء أدبي ونقدي عن مجمل كتابات وأعمال الأديب المغربي أحمد المديني، في فقرة (مسارات) المخصصة لتكريم الأدباء والمفكرين المغاربة، والاحتفاء بمنجزهم ضمن البرنامج الثقافي للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط، في دورته ال29.
جانب من الندوة التكريمية للكاتب المغربي أحمد المديني
تجربة غنية
شهد اللقاء التكريمي، الذي احتضنته قاعة "أفق"، وسيره الدكتور عبد الفتاح الحجمري، إلقاء كلمات كل من الروائي محمد الهرادي، والناقد رشيد بنحدو والأستاذ الباحث عبد المجيد الحسيب.
وقدم المنظمون المديني، بالكاتب الذي "راكم، خلال أربعة عقود من الزمن، تجربة غنية ومتنوعة في ممارسة الكتابة بحس تجريبي، ووعي مراهن على التجديد والمغايرة، ونفس مستديم، وإيقاع مطرد وعرضاني يشمل أجناسا أدبية متعددة، همت الرواية والقصة القصيرة والسيرة الذاتية والتخييل الذاتي، واهتمامات فكرية متنوعة، همت الأدب والنقد والترجمة والصحافة".
غني بما أعطى وأنجز
قال الحجمري إن المديني "روائي ماهر"،مشيرا إلى أن "ألاعيبه السردية كثيرة جدا"، منها "الحكاية وسط الحكاية، لا كتقنية، بل حالة وعي عند الشخصية".
وتحدث الحجمري عن ثلاثة أمور، قال إن على قارئ المديني استحضارها، تتمثل أولاها في طاقته الهائلة في تحويل الصمت إلى كلام وتقريب المسافة بين الأدب والحياة، وثانيها في انشغاله الدائم بسؤال الكتابة وبابتكار الشكل الأدبي الأنسب المعبر عن الحالة، أما ثالثتها فتتثمل في أن المديني حين يكتب سيرة شخصياته، فإنه يكتب سيرة الكتابة في الآن ذاته.
من جهته، تحدث الهرادي عن المديني، فقال عنه إنه متعدد وغني بما أعطى وأنجز، مستعيدا علاقته به، حيث قال: "تعرفت على أحمد المديني رفقة الشاعر أحمد المجاطي، في أواسط السبعينيات بالدار البيضاء، بمرس السلطان، موضوعِ روايته عن الدار البيضاء، فتبادلنا أطراف الحديث بسرعة، وأعرف الذكاء الذي يقف خلف كلمات المجاطي، وردود فعل المديني وقدرته على استحضار النصوص القديمة، وسرد الأحداث الجارية، وملاحظة الناس وما يجري داخل الجريدة، وفي الأماكن الحميمة التي يلتقيان فيها ويعرفانها جيدا".
ورأى الهراوي أن كتابة المديني عن الدار البيضاء "موضوع لا يتعلق بالتاريخ، بل بمن نخاطب الآن، والموضوع لا الدار البيضاء، بل القيم السياسية والثقافية والإنسانية التي عرفتها المدينة بتاريخها النقابي والنضالي والوطني، وأصبحت موضع شك، ويحاول أن يعيد طرح السؤال مجددا ... عن طريق نص ممتع متعدد الشخصيات غني، وموجود فيه الشاعر كواحد من شخصياته".
وتحدث الهرادي عما عده ورطة كتاب القصة الأوائل بالمغرب، مشيرا في هذا السياق إلى أن المديني قدم الصورة الأولى للتجريب، من خلال مراجعة ميثاق الكتابة القصصية لتكسير اللغة والبناء، والدخول مع اللغة في علاقة أخرى، واختراق الواقع وتحويله إلى صورة من صور الفانتازيا.
وبالعودة إلى جانب من منجز المديني، تحدث الهرادي عن كاتب "يمتزج بنصه"، مشيرا إلى أنه اكتشفه حاضرا روحا وبيولوجيا ونفسية ولغة، بطريقة مدروسة لا فجة. وأضاف: "لا يمكن أن نفصل الكاتب عن نصه، ولا جدوى من اللعبة الشكلية بين الكاتب والراوي، ربما هو من الشخصيات الأساسية في رواية الدار البيضاء، يظهر في الرواية كمن يظهر تحت إضاءة. الدار البيضاء كتبت بطريقة، وحضور الكاتب في نصه هدفه أن يقوم باللعب الكبير لإثبات ما يمكن إثباته، وتحويل ما هو ذهني وفكري إلى شيء مشخص وملموس، وتقديم الشخصيات والابتعاد عنها؛ فحضور الكاتب أساسي".
جانب من الجمهور الحاضر
سمات جمالية وقيمية
تحدث بنحدو عن المديني "المثابر على تعطيل السرد الأفقي، باقتحاماته المتكررة، باسمه الشخصي أحيانا، معلقا على مصير تارة، وليبرر سلوك شخصية تارة أخرى"، مشيرا إلى أنه "لا يكتب رواياته في حل من أفق فكري وجمالي ما، بل في شبكة معقدة من القيود والشروط ليس أقلها أثرا المناخ العام".
ورأى بنحدو أن روايات المديني "كارثية"، وذلك بتعبير "كتابة الكارثة" لموريس بلانشو، لـ"فرط الكآبة وتقريع الذات". كما تحدث عن منهج "التهجين"، الذي يوظفه بإقحامه لنصوص أجنبية في نصه، لأجل أن "تساعد بأساليب كارثية في تخفيف الإحساس بالكارثة".
وخلص بنحدو إلى أن المديني "لا يكتب في حل من كل أفق فكري أو جمالي، بل ضمن شبكة معقدة من القيود والشروط تترجم المناخ العام وكينونة العالم بأزماته وتحدياته الكونية التي هي ما يكيف فعل الكتابة".
من جانبه، تحدث الحسيب عن "العنف في الدماغ"، المجموعة القصصية التي صدرت للمديني سنة 1971، في "سياق ثقافي وسياسي يتسم بكثير من الغليان والاحتدام، ظهر فيه جيل جديد متأثر بالصراعات السياسية ومخاضات العالم العربي والعالم، وظهرت منابر ثقافية، من بينها "أنفاس"، تراهن على تحديث المجتمع والأدب في آن".
وتحدث الحسيب، في هذا الصدد، عن "سمات جمالية وقيمية" حضرت في "العنف في الدماغ"، ولازمت أعماله، منها اعتماده "جمالية التجريب في سياق أدبي مغربي وعربي هيمنت عليه الوضعية الكلاسيكية، بالخلق والمغامرة وإرساء مواثيق جديدة في الكتابة، بين الحلم واليقظة والمعقول واللامعقول، لارتياد آفاق أدبية مغايرة، ظلت تمر بالتحديث والتجريب".
وشدد الحسيب على أن مفهوم التجريب عند المديني لا يستقيم دون لعب، إذ "لا سرد جدي لديه من البداية إلى النهاية، بل مزج الجدي بالساخر والمفارق، محررا الكتابة من رتابتها الفجة"، لافتا إلى أنه "يمارس الشغب والحرية" حتى في الحكايات التي لا تحتمل موضوعاتها ذلك؛ فيما تتميز كتابته بـ"نفورها من النزوع الغنائي في الكتابة، ومعظمها مضاد للنزوعات الغنائية المتماهية مع الوثوقيات والأفكار الحالمة، متجنبا محاذير الذاتية الطافحة بإبقاء المسافة من الذات والموضوعات بسخرية".
أريد أن أهدأ
قال المديني، في كلمة بالمناسبة، تلت كلمات المتدخلين: "أحس بسعادة غامرة للقائكم، فلا أوجد كاتبا إلا بالقارئ، بهذا الامتداد، وإلا من أنا!؟ أمام كل كلمة أخطها تحدي القارئ كيف أخاطبه وأحس به؟ أن أعرف كيف أحس به".
وتحدث المديني عن علاقته بالكتابة، فقال: "بدأتُ ذاتيا مطلقا، وأريد أن أنتهي لا ذاتيا مطلقا لأن الرواية ليست جنسا ذاتيا، بل هي جنس لا ذاتي. أريد أن أهدأ ... مع الاحتفاظ ببعض حمم البركان".
كما تحدث المديني عن الرواية كاختيار إبداعي، فقال عنها إنها "فن صنعة ومضمار لعب، ولكل صنعة قواعدها ومادتها وأدواتها، وبها تُروى قصتها وترسم معالمها، … فلا شجرة تورق أغصانا وتينع بلا جذور، ... وجذر الرواية فن التراجيديا، كما وضعها أرسطو سنة 355 قبل الميلاد. في التراجيديا اليونانية يحضر صوت جماعي، وممثل واحد يؤدي دور الجميع، والمونولوغ مهيمن عند إسخيليوس وسوفوكليس، مع تعدد الشخصيات في "أوديب" ... وهو تحول تم في عصر ذهبي شهد ولادة الديمقراطية والفلسفة والتراجيديا، والانتقال الخطير من الميثوس الإلهي المتضمن للثيوقراطيا بوصفها نظام حكم إلى اللوغوس المعمل للعقل، مسقطا الخضوع لكائن أسمى؛ وهي ثورة حقيقية لنقلنا من زمن الآلهة إلى زمن الإنسان".
3 وزراء يكرمون المديني
للحلم بقية
قال المديني إنه لم يساوم ولن يتنازل في "الكتابة التي لا تسمح لنا بالعيش"، وأضاف: "لا نستطيع العيش كتابا بأقلامنا، لكن هذا لا يمكن أن يسمح لنا بالمساومة على الكتابة أو أن نأخذ عليها أجرا".
وأكد المديني على إرادة الحرية والثبات للبقاء خارج أو داخل الأوهام، مشددا على أنه لا روائي إلا بهذه البقية، ليصنع "المحافل التي تتعالى وتسمع منها أصوات الآخرين"، قبل أن يضيف أنه بعد نصف قرن عن كتابة تاريخ الأحلام، "ربما للحلم بقية".
سيرة
يشار إلى أن المديني هو قاصّ وروائي، وباحث جامعي وناقد أدبي، تخرَّج في جامعة السوربون بدرجة دكتوراه الدولة في الآداب والعلوم الإنسانية سنة 1990. عمل أستاذاً في جامعات مغربية وفرنسية، وصدرت له أعمال عدة، قصصية وروائية، ورحلات، ودواوين شعرية، ودراسات جامعية ونقدية، وترجمات أدبية، عن دُور نشرٍ عربية، وأجنبية. كما تُرجمت بعض كتاباته إلى اللغات: الفرنسية، والإسبانية، والإنجليزية، وشارك في عدة مناظرات أكاديمية، ومؤتمرات أدبية بالعالم العربي، وخارجه. وله أبحاث منشورة في المجلات والحوليات المتخصصة. وقد حصل على جائزة المغرب للكتاب في فئة الدراسات الأدبية والنقدية عام 2003، وعلى الجائزة نفسها في فئة الإبداع السردي عام 2009.
كلام الصور:
@من لقاء تكريم الأديب أحمد المديني
@حضور غفير ونوعي في لقاء تكريم الأديب أحمد المديني
@أحمد المديني